الذهبي.. إمام الحديث ومؤرخ الإسلام

قامات إسلامية
01:58 صباحا
قراءة 4 دقائق
بقلم: محمد حماد

هو إمام المحدثين، ومؤرخ الإسلام، وهو واحد من الأفذاذ القلائل في مسيرة علوم الحديث والرجال والتأريخ الإسلامي، يجمع إلى جانب الإحاطة الواسعة بالتاريخ الإسلامي حوادث، ورجالاً، المعرفة الواسعة بقواعد الجرح والتعديل للرجال، فكان وحده مدرسة قائمة بذاتها، وكان غزير الإنتاج، متنوع التأليف، وبلغت مؤلفاته التاريخية وحدها نحو مئة وخمسين كتاباً، بعضها يتجاوز المجلدات ذوات العدد، ولا تقتصر هذه المؤلفات على عصر معين، أو فئة محددة، أو تنظيم واحد، بل تتجاوز ذلك كله لتشمل جميع عصور الإسلام.
هو محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله، التركماني الأصل، الفارقي، ثم الدمشقي، شمس الدين الذهبي، ولد بدمشق، في اليوم الثالث عشر من شهر ربيع الآخر سنة 673 هجرية، الموافقة سنة 1274 ميلادية، وعرف بابن الذهبي، نسبة إلى صنعة أبيه، وكان هو يقيد اسمه «ابن الذهبي»، ويبدو أنه اتخذ صنعة أبيه مهنة له في أول أمره، لذلك عرف عند بعض معاصريه بالذهبي.
نشأ في أسرة كريمة تركمانية الأصل، يعمل عائلها في صناعة الذهب، فبرع فيها وتميز حتى عُرف بالذهبي، وكان رجلاً صالحاً محباً للعلم، فعني بتربية ولده وتنشئته على حب العلم، وكان كثير من أفراد عائلته لهم انشغال بالعلم، فشب الوليد يتنسم عبق العلم في كل ركن من أركان بيته؛ فعمّته «ست الأهل بنت عثمان» لها رواية في الحديث، وخاله «علي بن سنجر»، وزوج خالته من أهل الحديث.


إتقان القراءات


حفظ القرآن في سن مبكرة، وأتقن تلاوته، وتعلم القراءات وهو في الثامنة عشرة من عمره، وقرأ القرآن بالقراءات السبع، وأتقن القراءات، وأصولها، ومسائلها، وبلغ من إتقانه لهذا الفن، وهو في هذه السن المبكرة، أن تنازل له شيخه محمد عبد العزيز الدمياطي عن حلقته في الجامع الأموي حين اشتد به المرض، وفي الوقت الذي كان يتلقى فيه القراءات مال الذهبي إلى سماع الحديث الذي ملك عليه نفسه، فاتجه إليه، واستغرق وقته، ولازم شيوخه، وبدأ رحلاته الطويلة في طلب الحديث.
رحلته الأولى كانت داخل البلاد الشامية، فنزل بعلبك سنة 693 هجرية، ولم يكن تجاوز العشرين من عمره، وسمع من شيوخها، وروى عنهم، ثم رحل منها إلى حلب، وحماة، وطرابلس، والكرك، ونابلسن والرملة، والقدس، حتى إذا انتهى من تلك البلاد، شد رحاله إلى مصر سنة 695 هجرية، وسمع من شيوخها الكبار، على رأسهم ابن دقيق العيد، وذهب إلى الإسكندرية فسمع من شيوخها، وقرأ على بعض قرائها المتقنين القرآن بروايتي ورش، وحفص، ثم عاد مرة أخرى إلى دمشق، ولم يمكث طويلاً حتى ارتحل من جديد، وكانت وجهته هذه المرة إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وكان ذلك في سنة 698 هجرية، وكان يرافقه في هذه الرحلة جمع من شيوخه، وأقرانه، من بينهم ابن تيمية، وجمال الدين المزي، والبرزالي، وقد جمع بين هؤلاء الأعلام طلب الحديث، وميلهم إلى آراء الحنابلة، ودفاعهم عن مذهبهم، واهتبل فرصة حجه فسمع الحديث من شيوخ مكة، والمدينة.
انصبت عناية الذهبي الرئيسية على الحديث، لكنه لم ينشغل بطلبه عن دراسة العلوم الأخرى، فدرس النحو والعربية على شيخه ابن أبي العلاء النصيبي، وبهاء الدين بن النحاس، إمام أهل الأدب في مصر، واهتم بكتب المغازي والسير والتاريخ العام، وكتب التراجم، وبرز فيها جميعاً، وكما كان أحد أعلام الحفاظ الذين برزوا في علم الحديث رواية، ودراية، فقد لقب بمؤرخ الإسلام.


حلقات التدريس


وبعد أن أنهى الذهبي رحلاته في طلب العلم ومقابلة الشيوخ وهم أعداد غفيرة تجاوزت الألف، اتجه إلى التدريس، وعقد حلقات العلم لتلاميذه، وانغمس في التأليف والتصنيف، وبدأت حياته العلمية في قرية «كفر بطنا» بغوطة دمشق، حيث تولى الخطابة في مسجدها سنة 703 هجرية، وظل مقيماً فيها إلى سنة 718 هجرية، وفي هذه القرية ألف الذهبي خير كتبه، وتعد الفترة التي قضاها فيها أخصب فترات حياته إنتاجاً، فبدأ باختصار عدد كبير من أمهات الكتب في شتى العلوم التي مارسها، ومن أهمها التاريخ والحديث، ثم توجه بعد ذلك إلى تأليف كتابه العظيم «تاريخ الإسلام» الذي انتهى من إخراجه لأول مرة سنة 714 هجرية.
تولى شمس الدين الذهبي كبريات دور الحديث بدمشق في أيامه، لما وصل إليه من المعرفة الواسعة في هذا الفن، ولا شك في أن هذه التجارب أتاحت له أن يدرس على يديه عدد كبير من طلبة العلم، ويفد عليه للتلقي كثيرون من أنحاء مختلفة بعد أن اتسعت شهرته، وانتشرت مؤلفاته، ورسخت مكانته لمعرفته الواسعة بالحديث وعلومه، والتاريخ وفنونه، فكان مدرسة قائمة بذاتها، تخرج فيها كبار الحفاظ والمحدثين.
ترك الإمام الذهبي إنتاجاً غزيراً من المؤلفات بلغ أكثر من مئتي كتاب، شملت كثيراً من ميادين الثقافة الإسلامية، فتناولت القراءات والحديث ومصطلحه، والفقه وأصوله، والعقائد والرقائق، غير أن معظم هذا الإنتاج يستغرقه علم التاريخ وفروعه، ما بين مؤلف ومختصَر ومنتقى، ومعجم الشيوخ وسيرة، وأول ما يلاحظ الدارس هذا العدد الضخم من الكتب التي اختصرها، والتي تزيد على خمسين كتاباً، معظمها من الكتب الكبيرة التي اكتسبت أهمية عظيمة عند الدارسين، ومما يثير الانتباه أن مختصرات الذهبي لم تكن اختصارات عادية يغلب عليها الجمود والنقل.
ومن أشهر مؤلفاته المطبوعة: كتب «ميزان الاعتدال في نقد الرجال»، و»المشتبه في الأسماء والأنساب»، و»العبر في خبر من غبر»، و»تذكرة الحفاظ» و «طبقات القراء»، غير أن أشهر كتبه اثنان هما: «تاريخ الإسلام» و»وفيات المشاهير والأعلام»، وهو أكبر كتبه، تناول فيه تاريخ الإسلام من الهجرة النبوية حتى سنة 700 هجرية الموافقة سنة 1300 ميلادية، وكتاب «سير أعلام النبلاء» وهو أضخم أعمال الذهبي بعد كتابه (تاريخ الإسلام) وهو كتاب عام للتراجم التي سبقت عصر الذهبي، ولم يقتصر الذهبي في كتابه على نوع معين من الأعلام، بل شملت تراجمه فئات كثيرة، من الخلفاء، والملوك، والسلاطين، والأمراء، والقادة، والقضاة، والفقهاء، والمحدثين، واللغويين، والنحاة، والأدباء والشعراء، والفلاسفة.
وظل الذهبي موفور النشاط يقوم بالتدريس في خمس مدارس للحديث في دمشق، ويواصل التأليف حتى كلّ بصره في أخريات عمره، حتى فقد الإبصار تماماً، ومكث على هذه الحال حتى توفي بتربة أم الصالح، ليلة الاثنين، ثالث ذي القعدة، قبل نصف الليل سنة 748 هجرية، ودفن في مقابر باب الصغير، وحضر الصلاة عليه جملة من العلماء، كان من بينهم تاج الدين السبكي، وقد رثاه تلامذته أعظم الرثاء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"