جرائم «إسرائيل» أمام «الجنائية الدولية»

03:00 صباحا
قراءة 5 دقائق
حلمي موسى*

بعد خمس سنوات من التمحيص والتدقيق، قررت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، فاتو بنسودة، أن المعايير توفرت لفتح تحقيق جنائي بشأن ارتكاب «إسرائيل» جرائم حرب «محتملة» في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأشارت إلى أنه تتوفر لديها دلائل تشير إلى شبهة ارتكاب جرائم حرب في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وفي قطاع غزة.
طلبت بنسودة من الدائرة الأولى في المحكمة اتخاذ القرار بشأن الولاية القانونية على الأراضي المحتلة، نظراً لتعقيدات قانونية تخشى أن تثار بعد بدء التحقيق. وما إن أعلنت ذلك حتى فتح الصهاينة وأعوانهم النار ليس فقط على المدعية العامة، وإنما أيضاً على المحكمة. واعتبر رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو أن «هذا يوم أسود في تاريخ الحقيقة والعدالة، حيث تتحول المحكمة الجنائية الدولية جهة معادية ل«إسرائيل» وتعتبر وجود اليهود في وطنهم جريمة».
وقد رحبت القيادة الفلسطينية بعزم المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق في جرائم الحرب في الأراضي المحتلة. وأعلن الرئيس محمود عباس أن «هذا يوم تاريخي، والآن أصبح بإمكان أي فلسطيني أصيب جراء الاحتلال أن يرفع قضية أمام المحكمة الجنائية الدولية». كما أن رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتيه اعتبر الموقف «تحولاً كبيراً ولافتاً في تعامل المحكمة مع الانتهاكات «الإسرائيلية»، وانتصاراً للحق والعدل على غطرسة القوة». وأكدت الخارجية الفلسطينية مشاركتها في الإجراءات القضائية أمام المحكمة، لتأكيد أن مسألة الولاية الإقليمية محسومة بموجب القانون الدولي.

واشنطن تدعم تل أبيب

غير أن هذا ليس ما يهم الصهاينة الذين انشغلوا في اتهام المحكمة والمدعية العامة باتهامات مختلفة، من المس في ماضيها إلى اتهامها باللاسامية وممارسة الإرهاب القانوني. ووقفت الإدارة الأمريكية، كالعادة، إلى جانب الكيان، حيث دان وزير الخارجية مايك بومبيو قرار المدعية طلب الرأي في الولاية القانونية لتسهيل بدء التحقيق. وأعلن الطرفان أنهما سيحاربان المحكمة الجنائية الدولية وسيتصديان لأي محاولة لتعريض قادتهما وجنودهما للملاحقة القضائية في العالم.
وكان أول سلاح بيد الصهاينة في مواجهة المحكمة الجنائية الدولية اتهامها بانعدام الصلاحية، نظراً لأن فلسطين، من وجهة نظرهم، ليست دولة، ولأن الدولة العبرية لم تصادق على معاهدة إنشاء المحكمة. ولكن هذا الاتهام بدا عديم المعنى لأنه يتناول في الجوهر جوانب إجرائية، في حين أن لب المسألة هو اعتبار النشاطات «الإسرائيلية» على الأرض الفلسطينية جرائم حرب.
وليس معلوماً بعد إن كانت أمريكا والاحتلال سينجحان في إجبار المحكمة على رفض طلب بنسودة وإدراج ملف جرائم الحرب الصهيونية ضمن ملفات يطول البت فيها في دهاليز عجلات القضاء الدولية.
ومن الجائز أن واحداً بين الأسباب الأربعة التي عددها المستشار القانوني للحكومة «الإسرائيلية»، أفيحاي مندلبليت لرفض فتح تحقيق من جانب المحكمة الجنائية قد يلعب دوراً رئيسياً في قرار المحكمة وهو اتفاقيات أوسلو وما تلاها. وبحسب مندلبليت فإن للكيان بموجب هذه الاتفاقيات، التي تمت برعاية دولية، حقاً قانونياً بعد أن اتفق الطرفان على حل الخلاف بشأن مستقبل الأراضي المحتلة في إطار المفاوضات بينهما. ولذلك فإن الكيان يرى أنه ليس على المحكمة التدخل لحسم خلاف سياسي في ظل عدم وجود اتفاق بين الطرفين على ذلك، وأن التوجه للمحكمة يشكل انتهاكاً للاتفاقيات. وبين هذا وذاك يناقش «الإسرائيليون» سبب اختيار المحكمة التحقيق معهم، رغم أن هناك جرائم حرب واضحة يرتكبها كثيرون في بلدان مختلفة ولم تتجه أنظار المحكمة لها.

قرارات سابقة

غير أن الاحتلال، وإن نجح في توجيه الأنظار نحو الجوانب الإجرائية، فإنه لن ينجح في إبعاد الأنظار عن الجرائم ذاتها. وهكذا يعود للواجهة من جديد قرار محكمة العدل الدولية بشأن المستوطنات وتقرير جولدستون الأممي بعد حرب 2008 على قطاع غزة. ومن المؤكد أن قرارات الحكومات الصهيونية المتعاقبة بشأن فرض وقائع على الأرض مخالفة لاتفاقيات أوسلو وإعلانات نتنياهو المتكررة عن ضم غور الأردن والكتل الاستيطانية لا تخدم المنطق الصهيوني بشأن التمسك باتفاقيات أوسلو.
والواضح أن الكيان لا يكتفي فقط بالتنديد والمرافعة القانونية، بل إنه يحاول بأشكال مختلفة الضغط مستخدماً كل أوراقه. وهكذا على سبيل المثال لا الحصر انطلقت في هولندا، مقر المحكمة الجنائية، دعوات من قادة اليمين المناصر ل«إسرائيل» بضرورة طرد بنسودة من هولندا. كما أن عدداً من قادة اليمين في الكيان دعوا إلى الإعلان عن إلغاء اتفاقيات أوسلو ما يجعل السلطة الفلسطينية في نظرهم بلا مرجعية قانونية دولية. بل إن بعض هؤلاء القادة ذهبوا أبعد من ذلك إلى حد المطالبة بتوجيه إنذار لقيادة السلطة الفلسطينية بسحب طلب فتح التحقيق الدولي خلال 48 ساعة وإلا ستجتاح القوات «الإسرائيلية» الأراضي الفلسطينية وتدمر السلطة عليها.
وواضح من لهجة قادة الكيان استمرار العنجهية في سلوكهم. ومع ذلك لا ينكر أحد أن مجرد طلب بنسودة النظر في إمكانية فتح تحقيق في جرائم الحرب شكل شارة حمراء واضحة. وقد أقر وزير خارجية الكيان، إسرائيل كاتس بأن خلف عدم تنفيذ قرار إخلاء الخان الأحمر قرب القدس وقف الخوف من المحكمة الجنائية الدولية. وقد ألغت حكومة الكيان أول اجتماع كان دعا إليه نتنياهو للجنة متعددة الوزارات للبحث في سبل تسريع ضم غور الأردن تحسباً من مواجهة مع المحكمة الجنائية.

هل تتحقق العدالة الدولية؟

في كل حال، فإن إعلان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية نيتها فتح تحقيق في الجرائم الصهيونية يفتح الباب على مصراعيه أمام حلبة صراع جديدة. ومعروف أن الأمريكيين والصهاينة حاولوا خلال السنوات الماضية، بالتهديد والوعيد، منع السلطة الفلسطينية من التوجه للمحاكم الدولية. كما أن الصهاينة عملوا جهد استطاعتهم لمنع العديد من الدول الأوروبية من استخدام الولاية القانونية الدولية ضد رجالها. ومن المؤكد أن الوضع اليوم يغدو أكثر تشويقاً لجهة معرفة ما إذا كان القانون الدولي لأول مرة سيُظهر أنيابه تجاه الجرائم الاحتلال المتتالية.
وفي هذه الأثناء ورغم اتحاد الصهاينة في مواجهة المحكمة الجنائية الدولية، فإن الخشية من عواقبها دفع إلى انفجار سجال حول مدى استفزاز اليمين للأسرة الدولية. ويرى كثيرون في الكيان أن الهوس الذي مس القيادة اليمينية ومنعها من التقدم في العملية السلمية مع الفلسطينيين هو ما يدفع العالم لفرض العزلة على الكيان. ومعروف أن مركز دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب اعتبر مؤخراً احتمال فرض العزلة الدولية تحدياً وجودياً ل«إسرائيل». ولا يكفي في هذا الشأن الدعم الأمريكي غير المسبوق للسياسات اليمينية المتطرفة. فهناك احتمال أن تعجز أمريكا عن توفير الغطاء لقادة العدو وجنوده أمام المحاكم الدولية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"