الحروب الباردة

في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا
04:23 صباحا
قراءة 8 دقائق

عن المؤلف

تأليف: لورنز إم. لوثي

عرض وترجمة: نضال إبراهيم

تركز الروايات التاريخية على التنافس السوفييتي-الأمريكي، كما لو كانت القوى العظمى هي فقط القوى الحصرية للنظام الدولي خلال الحرب الباردة. تقدم هذه الدراسة تفسيراً جديداً للحرب الباردة من منظور القوى الصغيرة والمتوسطة في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، وتتناول التطورات السياسية والاقتصادية والفكرية والدينية في هذه المناطق التي تستمر في تشكيل العالم إلى هذا اليوم.

تعود الجذور السياسية والأيديولوجية لتقسيم الحرب الباردة في العالم إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما ظهرت روسيا السوفييتية والولايات المتحدة كمروِّجتين للرؤى المتنافسة، بهدف إعادة ترتيب عالم ما زالت تسيطر عليه القوى الإمبريالية، ولا سيما المملكة المتحدة. لكن التراجع السوفييتي الأمريكي الموازي عن العلاقات الدولية خلال عشرينات القرن العشرين سمح للنظام العالمي الإمبريالي بالازدهار مرة أخيرة. خلال فترة ما بين الحربين، زادت لندن وباريس وروما نفوذها في منطقة الشرق الأوسط الكبير وإفريقيا، وفعلت طوكيو الشيء نفسه في شرق آسيا. في عام 1945، قدمت الهزيمة البريطانية السوفييتية الأمريكية المشتركة للعدوان الألماني والإيطالي والياباني في الحرب العالمية الثانية، للمملكة المتحدة والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة نفوذاً سياسياً وعسكرياً وأخلاقياً لا يضاهى. لم يكن لأي دولة أخرى أن تنافسها من حيث القوة السياسية والعسكرية.

هُزمت ألمانيا وإيطاليا واليابان، وكانت الصين ضعيفة، وظهرت فرنسا مرة أخرى مهانة بسبب الاحتلال. ومع ذلك، لم يكن من الممكن أن تكون القوى الثلاث الكبار مختلفة عن بعضها. خرجت المملكة المتحدة مفلسة من الحرب، وتحت ضغط الانسحاب من مستعمراتها في جنوب آسيا، ولكن ليس من بقية إمبراطوريتها. نجا الاتحاد السوفييتي من هجوم وحشي ومدمر من ألمانيا. وتسببت الحرب العالمية الثانية في دمار هائل في أراضيها الغربية، ولذا أجبرت موسكو على اتباع سياسة إمبراطورية ثورية حذرة أولاً في محيطها الأوروبي ثم في شرق آسيا.

في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، اشتبكت القوى الثلاث بشكل خاص حول أعدائها السابقين ألمانيا واليابان. زاد السلوك السوفييتي في أوروبا الشرقية واستئناف الحرب الأهلية الصينية من قبل الحكومة الرسمية للصين - وهي شريك أمريكي في الحرب الباردة الناشئة - من تعقيد الوضع. بدون اندلاع الحرب الكورية - صراع محلي في محيط العالم - في عام 1950، كان من المحتمل أن يظل الصراع السوفييتي الغربي محصوراً في أوروبا وشرق آسيا. واقتناعاً منها بأن الاتحاد السوفييتي كان توسعاً جوهرياً، استخدمت الولايات المتحدة الحرب الكورية لتنفيذ استراتيجية احتواء جديدة من التحالفات الدفاعية المرتبطة بالعالم الشيوعي.

تراجع الإمبراطورية البريطانية

وفي عام 1956، دعا نزاع محلي آخر - أزمة السويس، التي ساعدت المملكة المتحدة الإمبريالية في إشعالها - مؤقتاً الحرب الباردة إلى الشرق الأوسط. بحلول أوائل عام 1957، تم وضع الأسس الهيكلية للحرب الباردة العالمية. شكل الاتحاد السوفييتي وشركاؤه - دول أوروبا الشرقية وعدد قليل من الحلفاء الطوعيين مثل ألبانيا والصين وفيتنام الشمالية - كتلة متجاورة من الأنظمة الثورية على الأرض الأوراسية.

خلال نفس الوقت، تراجعت الإمبراطورية البريطانية كقوة عالمية. بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، كان جنوب آسيا فقط في طريقه إلى الاستقلال، بينما كانت لندن لا تزال تحت إمبراطورية عالمية وصلت من إفريقيا عبر الشرق الأوسط إلى جنوب شرق آسيا وما بعدها. ومع ذلك، فقد فقدت، في غضون اثني عشر عاماً، معظم نفوذها في العالم العربي، وهي المنطقة الحاسمة في الحفاظ على الإمبراطورية معاً، وبالتالي الكثير من نفوذها على مستعمراتها السابقة والباقية حول المحيط الهندي. فضلاً عن ذلك، أدى ظهور الحرب الباردة في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية إلى زرع بذور التغييرات الهيكلية في الربع التالي من القرن.. على سبيل المثال، رفضت الهند ومصر الانحياز في الحرب الباردة. وأقنع التقسيم الألماني ألمانيا الغربية في نهاية المطاف باتباع سياسات التعامل مع النصف الشرقي من البلاد؛ وحولت المملكة المتحدة نفسها من قوة إمبريالية إلى لاعب أوروبي.

تقسيمات جديدة

في السنوات العشر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، شهد النظام الدولي صعود القوتين العظميين على المستوى العالمي، على حساب المملكة المتحدة. وكان الاتحاد السوفييتي وكيلاً ثورياً عالمياً ومعادياً للإمبريالية وملتزماً أيديولوجياً، أسس الهيمنة الشيوعية في أوروبا الشرقية، بينما أظهر القليل من الاهتمام بالعالم الإفروآسيوي المستعمر.

كانت الولايات المتحدة قوة أممية إصلاحية، لكنها براجماتية، واجهت، بمجرد أن تكشفت الحرب الباردة، صعوبات في الوفاء بالتزاماتها المناهضة للاستعمار. أثارت الاشتباكات العقائدية والخلافات السياسية والقرارات الأحادية والمفاهيم الخاطئة المواجهة الثنائية. في أواخر الأربعينات، كان تقسيم الحرب الباردة في العالم لا يزال محصوراً في أوروبا، وبدرجة أقل في شرق آسيا. بدأ تمزق تحالف الحرب بين الدول الثلاث الكبرى بخلافات حول أوروبا والشرق الأوسط في 1945-1946، وساعد على تقوية الفرقة الكورية، وأثر في الحرب الأهلية الصينية، واكتمل في نهاية المطاف خلال حصار برلين لستالين في 1948-1949. بعد اندلاع الحرب الكورية في منتصف عام 1950، وسعت سياسات الاحتواء الأمريكية تقسيم الحرب الباردة، ليشمل مناطق في محيط العالم الشيوعي بأكمله. أسهم الاتحاد السوفييتي نفسه في تقسيم شرق آسيا من خلال التوقيع على معاهدة الصداقة والتحالف مع جمهورية الصين الشعبية، ومن خلال تقديم الدعم لخطط الحرب الكورية الشمالية في أوائل عام 1950.

رد فعل الولايات المتحدة المبالغ فيه على الصراع المحلي في شبه الجزيرة الكورية وضع الاتحاد السوفييتي في موقف دفاعي، بينما كان ينفّر دول العالم الإفروآسيوي، وخاصة الهند ومصر. وكان العالم الشيوعي يأمل في تقليل توترات الحرب الباردة من خلال التفاوض على اتفاق تسوية بشأن الهند الصينية في عام 1954، لكن خسارة فرنسا لمستعمراتها دفعت واشنطن إلى توسيع بناء تحالفها إلى جنوب شرق آسيا، بينما تسببت في تعقيد باريس للحرب الباردة في أوروبا. رد الاتحاد السوفييتي على عضوية ألمانيا الغربية في حلف شمال الأطلسي من خلال إنشاء حلف وارسو في عام 1955، ثم إقامة علاقات ودية مع الهند، ودخول الشرق الأوسط في معاناة أزمة السويس. ومع ذلك، تبين أن الانقسام العميق على ما يبدو للعالم الأوراسي بحلول منتصف الخمسينات إلى كتلتين متعارضتين كان أكثر هشاشة مما كان متوقعاً، كما تكشف الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب.

أزمة السويس

حددت أزمة السويس عام 1956 نقطة النهاية للمطالب البريطانية العالمية، وأصبحت في الوقت نفسه خطوة مهمة في الحرب الباردة اللاحقة، وإن كانت بطيئة ومترددة، في دخول الشرق الأوسط. أدت محاولات ستالين للحصول على تنازلات إقليمية من إيران وتركيا إلى تقويض تحالف الحرب العالمية الثانية السوفييتية الأمريكية البريطانية في 1945-1946، لكن بعد ذلك لم تشارك القوى العظمى لبعض الوقت في أي منافسة في هذه المنطقة العالمية. بل على العكس، دعمت واشنطن وموسكو إقامة «إسرائيل» على حساب الفلسطينيين في 1947-1948. كان ترومان يهدف إلى ضمان ألا تقع الدولة الجديدة تحت النفوذ السوفييتي، وكان ستالين يأمل في تقليص قبضة البريطانيين في الشرق الأوسط. بعد ذلك، حاولت واشنطن ولندن رعاية عملية سلام بين الدولة اليهودية وجيرانها العرب، لكن هذا حدث إلى حد كبير خارج سياق الحرب الباردة.

كما فرضت القوتان الغربيتان وفرنسا على أنفسها حظراً بشأن تسليم الأسلحة إلى الشرق الأوسط من أجل منع سباق التسلح، وتوسيع نطاق الحرب الباردة في المنطقة. وكان احترام الحظر من ناحية اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، لأن ستالين في الغالب لم تكن لديه مصالح محددة في الشرق الأوسط في ذلك الوقت. ومع ذلك، فإن بناء التحالف الأمريكي البريطاني في أعقاب الحرب الكورية، جلب الحرب الباردة لأول مرة إلى الشرق الأوسط، حتى لو رفضت مصر المشاركة في بناء التحالف، لكنها انضمت إلى الحركة الآسيوية الإفريقية، واشتركت في عدم الانحياز مع نهرو. بعد توغل «إسرائيلي» في غزة أواخر فبراير 1955، استخدم جمال عبد الناصر اجتماعه مع نهرو ورئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي في طريقه إلى مؤتمر باندونج للدول الآسيوية والإفريقية لطلب توصيل الأسلحة. في نهاية المطاف، دعم خروتشوف مصر بأسلحة في صفقة الأسلحة السوفييتية التشيكوسلوفاكية التي كسرت حظر الأسلحة الغربية في سبتمبر 1955. وفي منتصف مايو 1956، اعترفت مصر في عهد عبد الناصر بلجان المقاومة الشعبية - القوة الرئيسية الوحيدة المستبعدة من الأمم المتحدة - في محاولة التأكيد على التزامها بالأممية الآسيوية الإفريقية، وتقويض حظر الأسلحة المفروض على الشرق الأوسط الذي كان قيد المناقشة في الجمعية العامة للأمم المتحدة. بدأت أزمة السويس نفسها بعد شهرين، في 26 يوليو / تموز 1956، مع التأميم المصري لشركة القناة.

خطوة مفاجئة

جاءت هذه الخطوة المفاجئة بسبب المطالب الأمريكية لمصر بالالتزام مع الغرب في الحرب العالمية الباردة مقابل الحصول على قروض لبناء سد أسوان في أعالي النيل. بسبب عدم الاحترام لسيادة مصر وموقف عدم الانحياز، قرر عبد الناصر التخلي عن المساعدة الأمريكية، وبدلاً من ذلك، قام بتأميم الشركة المملوكة للأجانب. بينما ظهر الحدث على أنه الفعل الأخير لإنهاء الاستعمار في بلاده، كان لعبد الناصر أيضاً سبب رصين للتأميم، إذ سمح له بالاستفادة من الدخل السنوي للشركة والأصول المالية الضخمة لتمويل بناء السد. أثارت مناورة القاهرة الجريئة غضب لندن وباريس، لأن المواطنين البريطانيين والفرنسيين كانوا المساهمين الرئيسيين في شركة القناة.

لكن إدارة أيزنهاور أوحت بهدوء إلى الحكومة البريطانية أنها لن تؤيد استخدام القوة، أو التهديد، طالما أن عبد الناصر لم ينتهك حق المرور عبر القناة. لكن لندن وباريس كانتا مقتنعتين بأن قرار عبدالناصر بتأميم الشركة يعني «أن الناتو وأوروبا الغربية كانوا تحت رحمة شخص غير مسؤول وغير مؤمن» من ناحيتهم. في النهاية، أعدت «إسرائيل» وفرنسا والمملكة المتحدة سراً تدخلاً عسكرياً مشتركاً في مصر بهدف الاستيلاء على القناة، وربما الإطاحة بعبد الناصر على أنه خطر. وضع التدخل «الإسرائيلي» - الفرنسي - البريطاني في 29-30 أكتوبر / تشرين الأول الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة مرة أخرى على نفس الجانب، حتى لو لم يتفقا على أي شيء آخر في ما يتعلق بالشرق الأوسط. على عكس عام 1948/1947، دعمت واشنطن وموسكو عام 1956 الجانب العربي. كانت الولايات المتحدة غاضبة من تصرف حلفائها في الناتو سراً خلف ظهرها. ومن خلال الوسائل الاقتصادية والدبلوماسية، أجبرت المعتدين الثلاثة على الخروج من مصر.

لم تخشَ واشنطن فقط من أن يؤدي التدخل إلى إبعاد القاهرة أكثر، بل كانت منزعجة أيضاً من أن هذه الأزمة غير الضرورية أعادت توجيه انتباه العالم عن الثورة الحالية ضد السوفييت في بودابست. في نهاية المطاف، كلفت الأزمة الولايات المتحدة مكانة كبيرة في الشرق الأوسط بسبب الارتباط الأمريكي الضمني مع المعتدين، على الرغم من إجراءاتها القوية ضدهم. وبالمقارنة، استغل الاتحاد السوفييتي الفرصة غير المتوقعة لقمع الثورة المجرية بالقوة العسكرية، بينما اقتربت من مصر من خلال تصوير نفسها على أنها المدافع الحقيقي المناهض للإمبريالية لأجل المصالح العربية. بشكل مؤثر، خلقت سياسة الاحتواء الأمريكية التي كان من المفترض أن تبقي الاتحاد السوفييتي خارج الشرق الأوسط وضعاً معاكساً. في أعقاب أزمة السويس، واجهت الولايات المتحدة كومة من الشظايا في الشرق الأوسط. أثارت سياستها الحادة في الحرب الباردة تجاه ناصر سلسلة من الأحداث التي أدت إلى مواقف سلبية ضدها. فضلاً عن ذلك، أدت المشاركة البريطانية في التدخل إلى تشويه سمعة المملكة المتحدة كشريك أمريكي لاحتواء النفوذ السوفييتي في الشرق الأوسط، في نزوعها إلى رؤية الحرب الباردة بشكل أساسي على أنها لعبة محصلتها صفر، استنتجت واشنطن أنها خسرت القاهرة أمام موسكو، وبالتالي حاولت إقامة تعاون وثيق مع الملكيات العربية المحافظة لاحتواء انتشار القومية التي يفترض أنها مؤيدة للسوفييت في جميع أنحاء المنطقة. وفي النهاية على المدى الطويل، في الحرب الباردة، دفعت مثل هذه السياسات الأمريكية عبد الناصر مرة أخرى إلى الجانب السوفييتي.

(يقع الكتاب باللغة الإنجليزية في 784 صفحة، وهو صادر عن دار مطبعة جامعة كامبريدج، 23 إبريل 2020).

نبذة عن المؤلف

**لورنز لوثي أستاذ مشارك في جامعة ماكجيل، مونتريال، ومؤرخ بارز في الحرب الباردة. حصل كتابه الأول «الانقسام الصيني السوفييتي.. الحرب الباردة في العالم الشيوعي» (2008) على جائزة فورنيس لعام 2008، وجائزة مارشال شولمان للكتاب لعام 2010. أحدثت منشوراته حول حرب فيتنام، والأممية الآسيوية الإفريقية، وعدم الانحياز آفاقاً جديدة في تاريخ الحرب الباردة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن المترجم

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

المزيد من الكتب والكتاب

تظاهرة عمالية في ألمانيا
ستيفانيا باركا
1
آدم تشابنيك وآسا مكيرشر
1
ريتشارد يونغس
1
جوشوا فيراسامي
خلال قمة أوروبية سابقة
مارك ساكليبن
1
تياجو فرنانديز