«الميزانية العسكرية».. سلاح «العظمة الأمريكية»

02:49 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور*

أرسل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الكونجرس منذ أيام مشروع الموازنة العامة للولايات المتحدة للعام المالي المقبل (من أول أكتوبر 2019 - 30 سبتمبر 2020) والتي تبلغ إجمالاً 4.5 تريليون دولار، متضمنة الموازنة العسكرية التي تبلغ (750 مليار دولار).. أي سدس الموازنة العامة كلها. وهذا الرقم (750 مليار دولار) يمثل أكبر موازنة عسكرية في تاريخ الولايات المتحدة، وتزيد ب (34 مليار دولار) وبنسبة 5% تقريباً عن موازنة العام الجاري (2018-2019) البالغة (716 مليار دولار) والتي اعتبرها المراقبون قياسية وقت صدورها..
كانت الموازنة العسكرية الأمريكية قد بدأت تشهد اتجاهاً عاماً للانخفاض بعد انتهاء الحرب العراقية، والمواجهة الرئيسية للحرب الأفغانية، غير أنها عادت لتشهد ارتفاعاً مطرداً مع وصول الرئيس ترامب للحكم، بما يمثله من توجهات، فقد كانت الموازنة العسكرية لعام (2016-2017) تبلغ (612 مليار دولار) - وهي آخر موازنة تقر في عهد أوباما.. لكن ترامب - الذي جاء تحت شعارات استعادة العظمة الأمريكية، وإعادة بناء القوات المسلحة - طلب دعماً إضافياً لها بنحو (50 مليار دولار).. ثم بلغت موازنة العام (2017 -2018) - 686 مليار دولار، ثم ارتفعت إلى (716 مليار دولار) العام الجاري.. (2018-2019) لتقفز إلى (750 مليار دولار) في مشروع ترامب للموازنة الجديدة.. أي حوالي (17%) من إجمالي الموازنة العامة وما يقترب من نصف الإنفاق العسكري للعالم بأسره (1670 مليار دولار)..
وفي حكم المؤكد أن يحصل ترامب على المبلغ الذي طلبه، لأن الكونجرس قد يختلف مع الإدارة في أي بند من بنود الموازنة إلا الموازنة العسكرية، فهو يعطيها ما تطلبه كقاعدة عامة.
وتنسجم هذه الزيادات الكبيرة والمتوالية مع شعار ترامب حول (استعادة العظمة الأمريكية) في جميع المجالات، وخاصة في المجال العسكري - وهو الشعار الذي يحظى بقبول أمريكي عام - ومع موقفه الداعي إلى إعادة بناء وتحديث القوات المسلحة الأمريكية، لتأكيد وضع الولايات المتحدة كقوة عظمى أولى، وبحيث تكون قادرة على مواجهة التحديات التي تواجهها زعامة الولايات المتحدة العالمية، حسبما يراها صانع القرار الأمريكي. وقد شهدت الفترة الماضية مثلاً استحداث فرع عسكري جديد خاص بالقوات الفضائية، كما شهدت بذل جهود حثيثة لتطوير القدرات الأمريكية في مجال الحرب الإلكترونية، التي يرى خبراء أمريكيون كثيرون أن روسيا والصين قد حققتا تقدماً مهماً فيها، وكذلك في مجال الأسلحة (الجيوفيزيقية).. كما يرون أن القوتين العسكريتين الروسية والصينية تمثلان تحدياً كبيراً للزعامة الأمريكية للعالم، ومحاولات أمريكا للانفراد بوضع القطبية الدولية، وفرض الهيمنة على العالم.
والحقيقة أن (مسؤوليات) مثل هذا الدور الإمبراطوري باهظة التكلفة، لمن يريد أن يقوم به، غير أن مكاسبه أكبر بكثير، فهو يتيح للدولة التي تملكه السيطرة على مواقع المواد الخام الاستراتيجية كالبترول والغاز وغيرهما من الثروات الطبيعية، كما يمكنها من فرض الكثير من شروطها على الشركاء التجاريين، ويفتح أسواق البلاد الأقل تطوراً أمام سلعها واستثماراتها.
وما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو قبل حوالي عقد من نهاية القرن العشرين، هو أن الولايات المتحدة انفردت بزعامة العالم في ظل نظام أحادي القطبية، على أنقاض النظام الدولي (ثنائي القطبية)، أو ما أسماه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأب (بالنظام العالمي الجديد)، وفرضت إرادتها ومصالحها الاستراتيجية بالاستخدام المباشر للقوة أو التهديد بها (احتلال أفغانستان والعراق) وتدمير صربيا لطرد الروس من البلقان، وضرب ليبيا (القذافي) وفرض عقوبات اقتصادية وسياسية قاسية على دول كروسيا والعراق وسوريا وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا.. الخ، تحت شتى الذرائع.. ووسعت حلف (الناتو) باتجاه الشرق حتى لامست حدود روسيا، وحاولت التغلغل في آسيا الوسطى، عبر أفغانستان، لمحاصرة روسيا والصين، فيما عرف بسياسة الاحتواء المزدوج لموسكو وبكين.. الخ.
غير أن هذه الأوضاع لم تستمر طويلاً، فما لبثت روسيا أن بدأت تستعيد عافيتها تدريجياً، مستفيدة من الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز في بداية القرن، لإعادة تنظيم قواتها المسلحة وبناء صناعاتها العسكرية، كما استفادت الصين من قوتها الاقتصادية المتعاظمة في تطوير العلوم والبحث العلمي لديها، ومن ثم في بناء قوة عسكرية جديدة ضخمة. واستطاع التحالف الصيني - الروسي أن يمثل قطباً مناوئاً لأمريكا على المستوى الاستراتيجي، وأن يجتذب بعض القوى الصاعدة إليه في منظمة شنغهاي ومجموعة البريكس، كما استطاع هذا التحالف أن يحمي كوريا الشمالية من اجتياح أمريكا لها، كما أحبطت روسيا خطة توسع (الناتو) شرقاً في جورجيا (2008) وأوكرانيا (2014).. واستطاعت أن تحول دون نجاح المخطط الأمريكي والغربي لتدمير سوريا بواسطة الإرهاب الظلامي، كما تمكن الشعب والجيش المصريان من الإطاحة بحكم الإخوان الإرهابي المدعوم من جانب أمريكا.
وعلى الصعيد العسكري بالذات تمكنت كل من روسيا والصين من تطوير أسلحة استعادت الاعتبار لمبدأ (الردع النووي المتبادل) من خلال مجموعة من الصواريخ والغواصات والطائرات (الشبحية) القادرة على اختراق الدرع الصاروخية الأمريكية ومنظوماتها المنتشرة في أوروبا الشرقية وكوريا الجنوبية واليابان، علماً أن هذا يتحقق بموازنات أقل بكثير من الموازنة العسكرية الأمريكية، فموازنة الصين العسكرية لعام 2019 تبلغ (175 مليار دولار).. أما روسيا فتقدر موازنتها ب(60 مليار دولار) وإن كانت تعلن رسمياً أن موازنتها تبلغ (116 مليار دولار) للسنوات الثلاث من (2018-2020).. وهو رقم غير معقول فعلياً.
وجدير بالذكر أن السياسة الإمبراطورية الأمريكية تستهلك جزءاً كبيراً من الموازنة العسكرية في بنود لا تحتاج إليها روسيا ولا الصين. فأمريكا لديها مئات القواعد العسكرية في كل أنحاء العالم من اليابان وكوريا الجنوبية شرقاً، حتى أوروبا الغربية.. ولديها مئات الآلاف من الجنود والضباط في هذه القواعد، وهؤلاء جميعاً يخدمون بأجور عالية، بينما الجيش الصيني يعتمد تماماً على نظام التجنيد الإلزامي (خدمة العلم) للأفراد.. أما الضباط وصف الضباط فهم محترفون بالطبع.. وكذلك الحال في روسيا من الناحية الأساسية (بدأ جيشها يعرف نظام التعاقد على نطاق ضيق). ومن ناحية أخرى فإن الأسلحة الأمريكية غالية الثمن مقارنة بنظيرتها الروسية والصينية المناظرة في الكفاءة بسبب ارتفاع أجور العمال والمهندسين الأمريكيين، وحرص الشركات الخاصة في مجال السلاح على تحقيق أرباح عالية.
وفي نفس السياق الإمبراطوري تتحمل أمريكا (70%) من الإنفاق الدفاعي لحلف (الناتو)، و(تحارب) مع حلفائها الأوروبيين لكي يرفعوا إنفاقهم الدفاعي إلى (2%) من ناتجهم الإجمالي بحلول عام 2024.. ويضغط ترامب على جميع الحلفاء ليدفعوا ثمن (الحماية) دون نجاح كبير حتى الآن.
وتشير تطورات العلاقات الدولية إلى أن زيادات الموازنة العسكرية الأمريكية قد تدفع إلى جولات جديدة من سباق التسلح، وترهق الخصوم.. لكنها لن تحول دون اكتمال ملامح نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.

* كاتب مصري
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"