وجه المصلحة في التجزئة والتوحيد

00:18 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

لم يعد شرطاً أن يكون المرء قومياً عربياً كي يناهض التجزئة، أو يدعو إلى التوحيد والتعاون والاندماج الاقتصادي العربي. انصرم الزمن الذي كانت فيه هذه الدعوة في جملة أحكار القوميين، يتباهون بها على غيرهم ويتميزون بها عن غيرهم من التيارات. 

لقد باتت ملكاً مشاعاً تشترك القوى جميعها  أو في الأغلب منها  في القول بها والدعوة إليها درجات مختلفة من القول والدعوة. وهؤلاء قد يكونون في السلطة وقد لا يكونون فيها، ولكن يجمعهم  على اختلافهم  الشعور بأنه ما عاد من خيار متاح للعرب كي يَقَووا على البقاء قوة ذات اعتبار، في الزمن الراهن، من دون مغالبة أسباب انقسامهم وضعف أواصر الترابط بين كياناتهم.

لقد تكفلت حقائق العالم المعاصر؛ عالم العولمة، بترسيخ هذا الشعور الجماعي بالحاجة إلى الخروج من حال التشرذم الكياني العربي، والشروع في ابتناء أساسات جديدة لعمران عربي جديد قائم على التعاون والتكامل والاندماج الاقتصادي. فعالم اليوم لم يعد يسمح للكيانات الضعيفة بالقدرة على البقاء، في مناخ تطبعه المنافسة الحادة بين الدول الكبرى والتكتلات الدولية، وعلاقات التبادل تزداد اختلالاً بين الدول تبعاً لاختلال توازنات القوى الاقتصادية التكنولوجية والعلمية، وقوانين التجارة  في عصر التجارة الحرة  تفرض أحكام الأقوياء في أسواق العالم من غير أن تفرد مساحة حماية  ولو صغيرة  لحقوق الدول الصغرى وصناعاتها ومنتوجاتها.

تكفي معطيات عالم اليوم، وما أطلقته العولمة من حقائق جديدة، لتقدم أغنى الدروس عن كيف ينبغي أن يعاش في هذا العالم الجديد؛ بأي عُدة وبأي عتاد تجَابَه تحدياته الكبرى، وبأي استراتيجيات يخطَط للمستقبل فيه. الواقع الجاري نفسه، اليوم، مدرسة لإنتاج الخيارات السياسية، لاستبدال يقينيات بأخرى. ما الذي يعنيه أن تلجأ دول كبرى، مثل ألمانيا وفرنسا ونظيرات لهما في أوروبا، إلى الالتئام في اتحاد إقليمي كبير مع أنها دول حققت وحداتها القومية منذ زمن بعيد؟ معناه، ببساطة، أن الدولة القومية الموحدة، بجلالة قدرها وإمكاناتها الهائلة، لم تعد تكفي للبقاء والصمود والمنافسة في عالم اليوم، فكيف بأمة لم تنجز الحد الأدنى من وحدتها؛ بل كيف بدول ضعيفة الموارد والإمكانيات مثل الدول العربية التي يتعرض بعضها للتفكيك الطائفي والمذهبي والعرقي والمناطقي من الداخل؟

من البين  إذن  أن الموقف من التجزئة لم يعد موقفاً أيديولوجياً أو سياسياً ينتحله المرء لنفسه، فيقف منها موقف الرفض والنقد داعياً إلى تخطيها بالسير في مشروع توحيدي جامع، أو يقف منها موقف المدافع عن الحدود الكيانية القائمة بوصفها حدوداً وطنية مقدسة ونهائية، وإنما الموقف منها اليوم، موقف مصلحي أو ينبغي له أن يكون نابعاً من المصلحة. وهكذا لم يعد السؤال في الموضوع: هل نحن مع التجزئة أم مع الوحدة؛ بل أين المصلحة المتولدة من أي منهما، وما وجوهها على نحو من الدقة؟ أما استمرار الخوض في جداليات لا تنتهي حول ما إذا كانت الحال الكيانية الراهنة في الوطن العربي، ثمرة لتجزئة كولونيالية أو محصلة تاريخ استقلالي لكثير من الكيانات سابق لعملية «سايكس بيكو» وأمثالها، فتحويل لمجرى التفكير في المسألة عن سياقه المطلوب: وجه المصلحة في الموضوع.

على أن الجواب عن سؤال المصلحة لا يكفي وحده، مع علمنا بأن أكثر مَن سيطرح عليهم لن ينفوا وجه المصلحة في تخطي مشكلات التجزئة، ومغالبتها بالعمل البيني العربي  العربي. ينبغي أن يترتب، على الجواب عنها، التفكير في سؤال الأسئلة الذي عليه مبنى السياسات والاستراتيجيات: ما العمل؟ وهو سؤال لا يجاب عنه بالعموم، بالتأشير على الخيار المطلوب (أكان داخل نطاق الدولة الوطنية أو داخل نطاق الكيان الجماعي العربي)، وإنما يجاب عنه من طريق اشتقاق رؤية أو رؤى لعملية البناء التي بها تتحقق تلك المصلحة المرغوب في تحصيلها. 

والرؤية تلك تكون حكماً، هندسة نظرية متكاملة تستوعب الممكنات وتقدر الاحتياجات من الموارد. ولكنها لا تنتقل من هيكل عظمي إلى جسم مكسوٍّ بأسباب الحياة إلا متى صِيرَ إلى تجسيدها في استراتيجيات شاملة، ثم في برامج عمل قابلة للتحقيق. إن التحدي الأكبر اليوم، وغداً، هو بناء الرؤية المتكاملة لمغالبة حال التجزئة، والتعبير عنها في استراتيجيات وبرامج تكون موضع توافق عربي، وتلك وحدها الضمانة لتفعيلِ تلك الاستراتيجيات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"