البشر بحروف مطبوعة

01:25 صباحا
قراءة 7 دقائق
يوسف أبولوز

حرس الكتاب ذاكرة البشرية من تهوّر الزمن وآفته: النسيان، ومنذ فجر التاريخ، لم يكن الإنسان منتظماً في حياته وفي إنتاجيته وقدرته على التفكير إلا بعدما اخترع الكتابة، وبالتدريج، من الصورة الدّالة على الكائن الحي إلى الرمز، إلى الأبجدية، وسوف يتحوّل كل ذلك، وعبر التاريخ إلى هوية. حرس الكتاب الهويات الثقافية، والإثنية، والعرقية، والقومية، وأصبح مع الأيام ما يشبه خط الدفاع عن كل هذه الهويات، وذلك عندما ظهر المفكرون والفلاسفة والمنظّرون في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ، فهؤلاء لكي يحرسوا هويّات شعوبهم وتواريخ بلدانهم الثقافية والاجتماعية وحتى النفسية كان عليهم أن يصنعوا الكتب، ويصبوا فيها زبدات أفكارهم وفلسفاتهم وتأويلاتهم، وبذلك ومرّة ثانية أصبحت الكتب خط الدفاع الثاني عن الدول والشعوب وأصبح الكاتب، وليس النسّاخ أو الورّاق هنا، يعادل كتيبة من الجنود المسلّحين، بل أصبح الكاتب رمزاً وضميراً عند الكثير من الشعوب التي تقدّر قيمة الفكر والفلسفة والآداب والفنون على اعتبار أنها روافع ومنصّات للهويات التي أشرنا إليها قبيل قليل.
في البدء، كان النساخ والورّاقون مجرّد حرفيين في مهن يعتاش منها الخطاط أو ذلك (الكاتب)، ولكن هؤلاء كانت علاقتهم بالكتب تنتهي فور أن يتمّوا نسخها أو «وراقتها»، أي أنها كانت مجرد حرفة أو مجرد (وظيفة)، لكن الكاتب المؤلف، أو الكاتب الأديب، أو الكاتب المفكر أو الكاتب الفيلسوف.. هؤلاء، ظهروا في مرحلة ثانية من تاريخ الكتاب إن جازت العبارة، إنهم صنّاع كتب بمعنى أنهم مؤلفّو كتب وليسوا نسّاخين أو ورّاقين، وبالطبع، من دون أن نتجاهل الأدوار النبيلة للورّاقين والنسّاخين والخطّاطين والمترجمين الذين نقلوا الكتب من لغة إلى لغة، وهم منكبّون، أيضاً على نسخها ووراقتها وتوريقها ونمنمتها وزخرفتها وتجليدها وتطعيم أغلفتها بالصور والتشكيلات الخطوطية حتى يبدو الكتاب وكأنه تحفة من الورق، فهؤلاء، وبصورة ما، هم فنانون فطريون أحبّوا الكتب والكتابة، حتى لو كانت الكتابة آنذاك تسمى «مهنة الآداب»، وغالبيتهم إن لم يكن كلهم كانوا فقراء ومن العامة الذين تدركهم الفاقة، ولذلك، ظهرت آنذاك مقولة «فلان أدركته مهنة الأدب» كناية عن حاجته أو فقره أو ضيق ذات يده.

مهنة

اليوم، وفي كثير من بلدان العالم أصبحت «مهنة الأدب» تدر ذهباً من الجوائز الأدبية ومن التكريمات الرسمية أو التي تمنحها الدول، واليوم أيضاً، بوسع مؤلف وضَع عدداً قليلاً من الكتب أو مهما كان عددها أن يصطف في طابور الأثرياء إذا حصل على جائزة في حجم نوبل مثلاً، ولكن اليوم أيضاً، طالما نتحدث بهذه البانورامية عن الكتب، بوسع كتاب أن يفضي بكاتبه إلى السجن هذا إذا لم يفض به إلى القتل، فالكاتب المفكر بشكل خاص أو الكاتب الروائي، أو المترجم، قد يضع كتباً تجعل منه مكتفياً مادياً ويعيش بشكل حر ومحترم ومستقبل، ولكن من يدري؟ فقد تكون هذه الكتب التي اشتغل عليها بدم قلبه كما يقول سبباً في تعاسته عندما يصبح بسبب أفكار ومحتوى ومضامين هذه الكتب مطلوباً للقانون، شأنه شأن أي لص أو انتهازي أو فاسد في منظومة اجتماعية وسياسية ما.. سرعان ما تنقلب على كاتبها وتنكّل به، لا بل إن شاعراً مثل ناظم حكمت، وبسبب كتبه لا لأي سبب آخر أسقطت عنه جنسية بلاده.. الجنسية التركية وسجن، وطرد إلى خارج الحدود، وبسبب الكتب لا لأي سبب آخر قتل المفكر حسين مروّة، وبسبب الكتب لا لأي سبب آخر اغتيل فرج فودة، وأبو حيان التوحيدي أحرق كتبه في آخر حياته ووراء ذلك اضطهاد واستبداد لا نعرف حقيقته بالطبع، لكن الكتب المحترقة كانت وصلت إلى النار أو أن النار وصلت إليها بعدما وصلت قبل ذلك إلى مؤلفها، ومع ذلك، لم يكف الكتّاب والشعراء والفلاسفة والروائيون عن الكتابة وعن صناعة الكتب، لا بل إن كاتباً ما.. يتعرّض للقتل على سبيل المثال أو التهديد بالقتل تشهد كتبه رواجاً واسعاً بعد كل ما يجري له من خنق ومضايقة.

شهادة

في كتابها «إبادة الكتب».. تلتقط الأكاديمية والباحثة ربيكا نوث كلمة المؤرّخة باربرا توشمان في مكتبة الكونغرس في العام 1980، ويجدر بنا هنا أن نعود إلى هذه الكلمة طالما نتحدث عن كتب رفعت أصحابها إلى الجوزاء، وكتب أخرى كانت سبباً في انهيار كتّابها، وفي الحالتين، .. الكتاب هو الكتاب، إنها كما أشرت إليها قبل قليل (الحارسة)، والكتب بالنسبة لِ «توشمان» حملة الحضارة.. «... من دون كتب يصبح التاريخ معقود اللسان، والأدب أخرس، والعلم معوّقاً، والفكر والتأمل في ركود تام... من دون كتب، ما كان للحضارة أن تشهد تطوّراً، فالكتب محرّكات التغيير، ونوافذ مفتوحة على العالم، وتضيف: الكتاب رفيق، ومعلم، وساحر، ومصرفيّ عُهِدَ إليه بحفظ كنوز العقل.. الكتب هي الإنسانية بحروف مطبوعة..». يضاف إلى ما قالته «توشمان» الكثير عن الكتب والكتابة والمكتبات، وهذه الأخيرة (المكتبات) تعتبر عند بعض الدول صروحاً وطنية أشبه بالمزارات، وَيُربّى تلاميذ المدارس على زيارتها بانتظام، وبشيء من الخشوع، فالمكتبة، إشارة إلى حضارة البلد، وتقدّمه الثقافي والإنساني من المكتبة الرسمية في إيبلا، مروراً بمكتبات اوغاريت، ومكتبات الملوك الأشوريين والفينيقيين وليس فقط انتهاء بمكتبة الإسكندرية ومكتبة الكونغرس.. وإلى آخره من معالم وصروح مكتبية ليس هنا مكان سردها والتعريف بها..

الطين أولاً

قبل الورق، كان الطين مادة «رقمية» للكتابة =من الرقيم=، ويعود ذلك إلى مخيّلات شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط. وكان الكاتب ينقش على الطين، فهو في الوقت نفسه فنان أو نحّات على نحو، تماماً، مثل ذلك المجلّد الذي تولى صناعة «جناحين» للكتاب فيما بعد.. أي بعد مرحلة الطين، وهي مرحلة الورق..
يقول الباحث د. ألكسندر ستيبتشفيتش في كتابه المهم «تاريخ الكتاب»: «كان الكتّاب ينقشون الإشارات على الطين النقيّ، ثم كانت توضع هذه الألواح تحت أشعة الشمس إلى أن تجف.. أما الرُّقُمْ التي تتضمن اتفاقيات تجارية مهمة ووثائق للدولة وأعمالاً أدبية ومعاجم، أو أي نص مخصص للاستخدام العام، فقد كان يتم شويها أو (شيّها) لحمايتها من التشوّه..».

3 كتب

من ورق البردي، ومن جدار الكهف، ومن خابية الطين، ومن خزانات الأحياء وحتى قلاعهم وحصونهم إلى قبور الموتى لم تكف البشرية عن إنتاج الكتب وصناعتها، ثم الإقبال عليها، فتكريمها، مثلما كان تقديسها في الماضي عند الأحياء والموتى، وهنا ثلاثة كتب بطلها دائماً المؤلف أو أن المؤلف هو أولاً وأخيراً مركز الكتاب و«سرّته»، فالإنسان في كتبه الثلاثة هذه حيّ وميت في آن وهذه الكتب الثلاثة: كتاب الاعترافات، كتاب المذكّرات، كتاب اليوميات:
1- في كتاب الاعترافات كما لو أن المؤلف يجلس أمام كاهن أو راهب فيفضي له بكل ما في صدره، وبكلمة ثانية يمتلك المؤلف في مثل هذه الحالة شجاعة نادرة مصدرها الصدق مع النفس من دون خوف من سلطة المجتمع، وسلطة العائلة، ولذلك، تعيش مثل هذه الكتب الاعترافية، وتبدو كأنها عابرة للزمن.
أمضى جان جاك روسو في تأليف اعترافاته أربع سنوات.. من 1765 إلى 1769، لكن جاء نشر الكتاب بعد وفاته بأربع سنوات كما تقول المعلومات الواردة عن الكتاب في الموسوعة الحرّة، وبعيداً عن هذه التواريخ تقرأ اعترافات روسو وكأنها صادرة أمس بحيوية فكرية نادرة، ولذلك، سمحت لنفسي بالقول إن البشرية أحياناً، تختار كتبها بعيداً عن إملاءات السلطة الثقافية التي عادة ما يصنعها مجموعة من الأفراد تجمع بينهم المصالح العامّة.
2-الكتاب الثاني، أو الكتب (البشرية) الثانية هي كتب المذكرات، والفرق بين المذكرات والاعترافات أن كاتب المذكرات ليس مضطراً لأن يجلس أمام كاهن أو راهب لكي يفضي له بكل شيء.. إن الذاكرة هي التي تشتغل في كتب المذكرات، بينما في الاعترافات يبدو الكاتب سارداً أو سردياً يبدأ من طفولته مروراً بصباه، ثم شبابه، وانتهاء بآخر حياته أو ما قبل هذه الحياة.
تستعاد أيضاً مذكرات البير كامو في ثلاثة أجزاء، وقد نقلتها إلى العربية نجوى بركات، ولكن لماذا البير كامو؟.. تقول بركات.. «... أنا معجبة بالمزيج الذي يشكّله البير كامو الكاتب والإنسان، أجده شخصية روائية بامتياز، كتاباته وحياته، ومواقفه، فقره، يُتمه، أمّه شبه البكماء، مرضه، إنسانويته، جائزة نوبل، خلافه مع سارتر، عمره الذي انقصف وهو في السابعة والأربعين.. الخ.. كل ذلك انقصف منه شخصية تزداد بريقاً كلما مرّ الزمن عليها، بعكس كتّاب كثر آخرين..»، و لعلّ هذه الإجابة من الروائية والمترجمة نجوى بركات تلخّص روح المذكرات نفسها التي تقرأ بشغف كلما مرّ عليها الزمن.
3-الكتاب الثالث، أو الكتب «البشرية» الثالثة هي كتب اليوميّات.. ومباشرة، تثير اليوميات فضول القارئ، فهو يبحث عادة في مثل هذه الكتب عن طبيعة الحياة التي كان يعيشها كاتب اليوميات، فهي تكشف عن قلقه، وعن توازنه، وعن تصالحه أو العكس تناقضه مع محيطه،.
كتب أبطالها الوحيدون مؤلّفوها، فهي أي الاعترافات، والمذكرات، واليوميات، لا تخضع للتجنيس الإجباري الجاهز: رواية مثلاً، وفي كل رواية أكثر من بطل وأكثر من شخص، في حين أن مركز الاعترافات والمذكرات واليوميات هو المؤلف فقط، والباقي يدور فقط حول هذا المركز.

القلعة الحصينة

هل ينظر إلى الكتاب اليوم كما كان يُنظر له في الماضي في إطار قيمته التي يحددها أكثر من عنصر، مثلاً، موضوع الكتاب، مؤلفه، مدى اهتمام الملوك والكهنة والقياصرة به.. يقول د. ستيبتشفيتش في«تاريخ الكتاب»: «.. كان المصريون يقدّرون الكتاب ذاته تقديراً يكاد يقترب من العبادة، وهكذا نقرأ مثلاً في أحد النصوص رأياً عميقاً حول قيمة الكلمة المكتوبة =لقد مات الإنسان وتحوّلت جثته إلى مسحوق وأصبح كل معاصريه تحت التراب. إلاّ أن الكتاب هو الذي ينقل ذكراه من فم إلى فم. إن الكتابة أنفع من البيت المبني ومن الصومعة في الغرب ومن القلعة الحصينة ومن النصب في المعبد».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"