أزمة رأسمالية أم حضارة إنسانية؟

04:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
لم تنتج الانسانية، في تاريخها، ما تنتجه اليوم من ثروات .وتقول الدراسات إنه إذا تم توزيع هذه الثروات بالتساوي بين شعوب العالم، فإن كل عائلة مكونة من ثلاثة أولاد قد تحصل على ما يوازي أربعة آلاف دولار شهرياً وتمتلك مدخرات بقيمة 71 ألف دولار على وجه التقريب . وهذا يعني أن جميع سكان المعمورة سوف يستحوذون على أمن صحي وغذائي ومسكن لائق وكل الخدمات من ماء وكهرباء وانترنت وغيرها .
ليس المقصود الدعوة إلى مثل هذا التوزيع المتساوي، المستحيل عملياً، ولكن الارقام تدل على أن الأرض تنتج ما يكفي ليعيش ساكنوها بكرامة . رغم ذلك تقول الوقائع إن ثلث سكان هذه الأرض لا يحظون بالحد الأدنى من الخدمات الصحية الأساسية وربعهم لا ينعمون بالكهرباء . وواحد من سبعة منهم يعيش في ضواح شديدة الفقر، وواحد من ثمانية يعاني الجوع وواحد من تسعة يفتقر إلى المياه الصالحة للشرب . بتعبير آخر مع توزيع متساو للثروة كل الناس سيكسبون 32 دولاراً في اليوم .ورغم ذلك فان 4 .2 مليار إنسان يعيشون بأقل من دولارين في اليوم و2 .1 مليار بأقل من 52 .1 دولار في اليوم .
المشكلة إذن ليست في أن الثروات باتت نادرة ولكن بأن توزيعها غير متساو حتى لا نقول غير عادل البتة . ففي يومنا هذا يملك 58 ثرياً في العالم مجموع ما يملكه 3 .6 مليار إنسان مجتمعين . وواحد في المئة من والأكثر ثراءً في العالم يملكون نصف ثروات العالم في حين أن سبعين في المئة من الأكثر فقراً يملكون ثلاثة في المئة منها .
هناك نحو 23 تريليون دولار مخبأة في جنات ضريبية ومالية . وهذا ما يعادل 130 مرة المبلغ الضروري لاجتثاث الفقر المدقع في العالم وبلوغ أهداف الألفية للتنمية التي حددتها برامج الأمم المتحدة الإنمائية .لم يحصل في تاريخ البشرية مثل هذا الفرق الصارخ بين ما يمكن أن يوفره الاقتصاد العالمي وما يوفره فعلياً للاجابة على الحاجات الأساسية .
السبب هو الأزمة، أزمة الرأسمالية . والأزمة الاقتصادية هي الوسيلة الأفعل لتنظيم انتقال العمل إلى رأس المال من الفقراء إلى الأغنياء .فتخفيض الرواتب،في ثمانينات القرن المنصرم، هو المثال الأبرز، كذلك ما حصل في اليونان وإسبانيا وغيرهما من الدول الاوروبية التي ضربتها الأزمة مؤخراً،ناهيك عن الولايات المتحدة نفسها . ولو أن الرواتب تشكل اليوم جزءاً معقولاً من الناتج الداخلي الإجمالي، كما كانت عليه الحال في العام 1981 على سبيل المثال، لزاد مدخول كل عامل حوالي 1400 دولار شهرياً عما هو عليه .
انهيار البورصات العالمية ،في العام ،2008 ما هو إلا تكرار للظاهرة نفسها . في أوروبا وحدها اختفت أربع ملايين وظيفة بسبب الأزمة . وفي العالم وقع 46 مليون إنسان جديد في الفقر المدقع .كما ازدادت الهوة اتساعاً بين الأغنياء والفقراء . ففي أوروبا هناك 120 مليون فقير وبين 100 إلى 150 مليوناً يعيشون في فقر مدقع . وعلى الرغم من تفشي البطالة لم يعد كافياً أن يحظى الانسان بعمل، ذلك أن عشرة في المئة ممن يعملون يعيشون على حافة الفقر . فقد انخفضت القدرة الشرائية 21 في المئة في إسبانيا وإيطاليا وبريطانيا و23 في المئة في اليونان ،كما انخفضت الرواتب 21 في المئة في البرتغال و53 في المئة في اليونان ،واليوم يعيش 13 في المئة من اليونانيين تحت خط الفقر و72 في المئة باتوا قريبين من ذلك . ويهدد الفقر في اسبانيا أربعين في المئة من السكان من الآن للعام 2020 .
أما الأغنياء فيزدادون عدداً وثروة . في أوروبا انضم 4500 ثري جديد إلى لائحة من يملكون أكثر من ثلاثين مليون دولار، وهكذا فالأزمة لا تضرب الجميع، على العكس .
هذه الهوة الصارخة بين الأغنياء والفقراء إهانة للجنس البشري . وبحسب الاقتصادي المعروف جيفري ساكس فإن إعادة توزيع الثروة هي مسألة "حضارة"، لكن هناك ضرورة ملحة وأسباب اجتماعية وسياسية وأمنية لمكافحة هذه الظاهرة . فالفقر أرض خصبة للأمراض والجرائم والارهاب والمخدرات والاضطرابات وغيرها .
هناك تشابه كبير بين ما نمر به اليوم وما حدث في فترة الكساد الكبير بين العامين 1929 و1930 عندما ارتفعت ثروة الخمسة في المئة من الأغنى في العالم من 24 إلى 33 في المئة . وبعد ذلك بعام واحد كان الانفجار الكبير . هذه النسبة كانت 32 في المئة العام 1938 و33 في المئة العام 2008 أي بالتحديد المستوى الذي كانت عليه في السنة التي سبقت الانفجار الكبير . هذا من الناحية الاقتصادية، لكن من الناحية السياسية تقول مجلة "الايكونوميست" إنه في 56 بلداً في العالم هناك إمكانية كبيرة جداً لاضطرابات وانتفاضات بل ثورات شعبية تشبه ما جرى في الربيع العربي . وهذا مدعاة قلق لعدد كبير من قادة العالم، كما عبروا عنه في مؤتمر دافوس في فبراير/شباط الماضي .

د .غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"