مرجعية الإبداع في أزمة

02:21 صباحا
قراءة 7 دقائق
الشارقة: محمدو لحبيب

رحيل أو غياب الرموز الأدبية، ليس موجعاً فقط، إنه كذلك مقلق، ذلك القلق المعرفي الذي ينبثق حين يتساءل الكثيرون عمن سيأتي مكانهم؟، من الذي يستطيع أن يشكل ولو بعد حين مرجعية ثقافية وأدبية أخرى تواصل رحلة الإبداع في فضاءاتها التي لا تتوقف مهما استطال الزمن.
نحن نعلم أن المبدع بشكل عام لا يموت ولا يغيب لأن إبداعه بالضرورة سيظل حاضراً، شاهداً على لحظات تفكير خارجة عن المألوف ولحظات تجلٍ للعبقرية الإنسانية في أبهى صورها، لكن ذلك الإبداع قد يذوي كوردة تُركت في الريح والبرد، إذا لم يكن هناك نفس جديد، وتيار جديد، ووجوه جديدة، تستلهم من ذاك الإبداع، تقرأه بشكل نقدي، دون أن تقلده أو تستنسخه، بل تفعل ذلك، لكي تُنشئ بصمتها الخاصة، ورؤيتها المختلفة الجديدة.
الحديث عن هذه الظاهرة يدخل في نظر البعض في إطار ضمان استمرارية الفعل البشري الإبداعي في مجال الأدب، لأنه هو أولاً المنوط بحفظ ذاكرة الشعوب، وهو الذي بإمكانه الانتقال بها إلى أفق جديد ورؤية متطورة بحسب احتياجاتها الثقافية العامة، ولذلك فهو حديث أكبر من مجرد الرثاء والأسى والأسف، إنه حديث في صميم عملية التنمية الثقافية واستدامتها.
الأمر الذي يطرح أسئلة عدة في ظل وفاة أو غياب عدد من الرموز الأدبية، هل يبدو الجيل الشاب مؤهلاً لتقديم نماذج تمثل مرجعيات ورموزاً إبداعية مختلفة ومتجددة؟، وهل امتلكت تجربة ذلك الجيل الشبابي فضاءها المتميز الخاص حتى اللحظة سواء في الشعر أو في الرواية؟.

الأكثر انتشاراً

يؤكد القاص إبراهيم مبارك أن الجيل الشاب يبدو أكثر انتشاراً في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لكنه في المجمل لا يقدم شيئاً إبداعياً ويقول: «بطريقة ما تشتغل الدعاية والتسويق في وسائل الإعلام وعبر مؤسسات معينة، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، لتقدم شباباً عديدين على أساس أنهم مبدعون، لكن الحقيقة التي يمكن اكتشافها بسهولة أنهم لا يقدمون شيئاً، إنهم يعانون الخواء المعرفي، لا عمق فيما يكتبونه، وهناك إهمال وعدم انتباه لذلك ما يفاقم أزمة عدم وجود جيل حقيقي قادر على أن تكون له بصمته الخاصة».
ويعود مبارك ليدعو للتشبث بالأمل معتبراً أن تلك الحالة التي شخصها آنفاً هي جزء عادي من سيرورة الحراك المجتمعي، وأنها لا تنفي أنه توجد وجوه شبابية تقدم إبداعات حقيقية يمكن البناء عليها ويقول: «برغم ذلك الخواء الذي يتميز به بعض كتابنا الشباب إلا أنه دائماً هناك أمل، هناك أسماء شابة تقدم كتابة إبداعية لافتة للنظر، ويمكن البناء عليها، فعلى سبيل المثال لا الحصر لو لاحظت كتابات الروائية ريم الكمالي، لوجدت إبداعاً رصيناً، عميقاً، ويقدم الجديد سواءً على مستوى موضوعاتها أو أسلوبها وتمكنها من اللغة السردية، وبشكل عام دائماً ما تمر المجتمعات بمثل تلك الأزمات الإبداعية ويظهر فيها شكل من أشكال الركود، لكنها تنهض أيضاً بعد ذلك وتقدم أسماء مختلفة وتستمر مسيرتها».

نظرة انطباعية

الناقد الدكتور صالح هويدي يؤكد أن تناول تلك الظاهرة لا يمكن أن يسلم من النظرة الانطباعية التي تميز نوعاً ما ما يسمى بصراع الأجيال ويقول: «البحث في هذه الظاهرة سيكون بحثا خاضعا للانطباعية التي تميز ما يعرف بصراع الأجيال، والتي تجعل الأجيال القديمة تنظر للجديدة على أنها لا تمتلك الخبرة ولا تمتلك ملامح خاصة بها، في حين تصر الأجيال الجديدة على أنها مختلفة، بل تؤكد أنها أضافت عبر كتاباتها المختلفة للأجيال القديمة، عبر توظيفها للتقنيات الجديدة وتجاوزها للواقعية الفوتوغرافية، وبشكل عام سيبقى ذلك الجدل مستمراً بتلك الطريقة».
ويعتبر هويدي أن الجيل الجديد في الإمارات موجود ببصمته الخاصة وأنها متميزة ومختلفة وقادرة على تقديم إضافة حقيقية ويقول: «الجيل الجديد من الأدباء موجود في الإمارات بشكل رصين ومتميز، وربما يلفت النظر إليه من خلال أن ثمانين في المئة من كتاباته هي من إبداع كاتبات، وهذا شيء يستحق التثمين، إضافة لذلك فلو نظرت إلى مجالات كتابة الجيل الشاب لوجدتها متميزة، فلم تعد تنحصر في الاتجاه الواقعي، بل قدمت أساليبها واتجاهاتها الخاصة، إضافة إلى ارتفاع نسبة الجرأة عند هذا الجيل مقارنة مع الأجيال السابقة، لذلك فهذا الحضور لا يمكن تجاهله، ولا يمكن اعتباره فراغاً».
وعدد هويدي بعض الأسماء التي يرى أنها تمثل بصمات مهمة ومرجعيات رمزية أدبية في الجيل الجديد، والتي استطاعت أن تؤسس لحضور إبداعي متميز ومختلف في رؤيته كذلك فقال: «ثمة أسماء عديدة تمثل تميز هذا الجيل الشاب، ومن خلال قراءاتي لإبداعاتهم يمكنني القول إنهم يشكلون حالة مختلفة ومتميزة وقادرة على أن تمثل رمزياً رؤية هذا الجيل الجديد وشخصيته، وأذكر هنا بعض الأسماء مثل صالحة عبيد ومريم الساعدي ونادية النجار، ولولوة المنصوري، وهناك كذلك أسماء أخرى تجتهد في أن تصل بدورها إلى مستوى متميز أذكر منها محسن سليمان، وعائشة عبد الله».

عاصفة من النشر

«ثمة عاصفة من النشر، دور نشر تطبع وتنشر، وتنشر، ودون أي اعتبار للجودة، أو التمحيص في كتابات الشباب الذين تنشر لهم»، بتلك الكلمات يستهل الشاعر أحمد العسم حديثه في الموضوع، ويؤكد أن المشكلة الحقيقية التي تواجه الأجيال الجديدة من الكُتاب هو غياب العمق عند بعضهم، والمسارعة إلى النشر دون اهتمام بالمحتوى الإبداعي ومدى تميزه، ويضيف قائلا: «أنا أعرف من خلال قراءاتي لما ينشره ذلك الجيل من الذي يكتب بتعجل».
ويؤكد العسم أن الجيل الجديد ينبغي أن يمتلك القدرة على التخطيط جيداً لمستقبله الإبداعي الأدبي، ويُحمل بعض المؤسسات الثقافية مسؤولية تسرع الجيل الشاب وعدم قدرته على إنضاج تجربته الإبداعية الأدبية في أجواء مناسبة لها فيقول: «على المؤسسات الثقافية التي تتولى النشر للشباب أن تراعي حدود تجربتهم، وضرورة إغنائها حتى تستوفي معايير الجودة اللازمة، ربما لو أنجزتْ لهم قبل النشر ندوات وملتقيات يتحاورون فيها مع بعض أفراد الجيل القديم، ويتعرفون على تجاربهم، وكيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه، لكان ذلك محفزا على أن يكتب الجيل الجديد بروية وعمق حقيقي وينشئ بعد ذلك بصمته الخاصة».
وروى العسم تجربته الخاصة حين كان في بداياته حيث كان يحرص على التعرف على إبداعات من سبقوه، وعلى اللقاء بهم لساعات طويلة، وعلى عرض أعماله عليهم وقال: «كنت أجلس مع جمعة الفيروز، ومع حبيب الصايغ، ومع أحمد راشد ثاني، وغيرهم، وكنت أستلهم من تجاربهم، وأعرض تجربتي كذلك كي أحظى بالرؤية النقدية التي تقومها، لكن الجيل الحالي لا يبدو في معظمه مهتما بأن يسمع ويجلس ويستفيد من الرموز الثقافية السابقة عليه قبل أن يغيبهم الموت، كم منهم استفاد من المرحوم الشاعر حبيب الصايغ؟، وكم منهم استفاد من مريم جمعة فرج؟، هذه هي أسئلة الغياب الموجعة حقا».

أسئلة عديدة

الشاعرة شيخة المطيري تؤكد أن جيلها عليه أن يطرح أسئلة عديدة، ويقلق من أجلها معرفيا، لأن ظاهرة فقد الأسماء الكبيرة تثير ذلك وتجعله ملحاً وتعبر عن ذلك بلغة شعرية جزلة: «قلق حقيقي وكبير يسرف في الدوران في رأسي، حاولت سابقاً رصفه في شوارع الكتابة حين قلت: «ويقلقني الموت/ لكن هذي الحياة تزيد القلق» إن رحيل الرموز يجعلنا نحن من نوصف بالجيل الجديد، نفكر بشكل أعمق في الأسماء الكبيرة الباقية ونطرح أسئلة من قبيل: أين نحن منهم الآن ؟ وكم منحنا أنفسنا فرصة التعلم منهم ومن أدبهم وإبداعاتهم التي تشكل لنا أماناً أدبياً ؟ وماذا سنفعل وحدنا إذا رحلوا ؟ ونحن أولئك الذين لم تكتمل أدواتهم بعد، بأي الملامح سنبدو حين ندرك أن أشجار الكتابة عليها دائماً أن تكون كثيفة الورق، دائمة الخضرة ؟، سؤال آخر: كيف نرى أنفسنا اليوم ؟ علينا ألا نرى ذلك وإنما يراه الآخرون.
وتستعرض المطيري تجربتها الشخصية مع الراحل حبيب الصايغ، كنموذج لرأيها فيما يمكن لجيلها أن يحققه من خلال الاستفادة من الجيل السابق وملاحظاته النقدية فتقول: «أذكر هنا حين كنت أقرأ أمام أستاذي حبيب الصايغ، كان لا يجامل أبداً على حساب القصيدة، لم يقتنع بما كتبت حين سمعني للمرة الأولى، وفي المرة التالية قال: الآن أفضل قليلاً، وبقيت أتعلم وبقي ينتظر الأفضل، إلى أن أطلق عليّ لقب فراشة الشعر وكان معي في برنامج أمير الشعراء أباً ومعلماً».
وتؤكد المطيري أن سنة الحياة أن يستلم الراية صف تلو صف وجيل تلو جيل، ولكنها تطالب جيلها بأن تكون السواعد التي تسلم وتستلم واعية ومدركة لحجم هذه المسؤولية.


عمل جاد


يؤكد أحمد العسم أن ثمة أسماء مهمة في هذا الجيل الشاب، ويشدد على أن ميزة تلك الأسماء تعود إلى أنها عملت بجد وحرص على أن تقرأ ويقول: «صالحة عبيد وريم الكمالي ولولوة المنصوري ومحسن سليمان وغيرهم قرأوا حتى شبعوا، إن بصمتهم الخاصة لم تأت صدفة، بل كانت نتاج ذهنية مثقفة جداً، وتعرفوا كذلك بعمق على تجارب من سبقوهم».


ثقة


نجاة الظاهري شاعرة ترى أن التجربة الإبداعية الشبابية في مجال الشعر خصوصاً تشق طريقها بشكل واثق، وأنها مؤهلة لصنع بصمتها ورمزيتها الخاصة وتقول: «أرى أنه على مستوى الشعر بشكل خاص، فإن التجربة الإبداعية الشبابية تشق طريقاً مميزاً جداً، ومختلفاً، وقد تبدو للوهلة الأولى أنها تجربة غضة طرية، ولكنها في الحقيقة تمشي بخطوات واثقة نحو تميزها وتفرد مبدعيها، ويمكنني القول إن الجيل الجديد من الشعراء مؤهل لأن تكون له ريادته الجديدة والخاصة، وستكون تجربته مرجعاً مهماً للدراسات النقدية، وبصمة خاصة في الثقافة الإماراتية».
وعن دور الجيل السابق وعلاقته بالتجربة الإبداعية للجيل الحالي تقول الظاهري: «الجيل السابق أورثنا نتاجاً ضخماً ولا أظن أن بالإمكان الاستغناء عنه أو إهماله، لأن العملية الإبداعية عملية بناء، يصعد إلى الأعلى، وكل المشاركين فيه يضعون لبِناتهم ويذهبون، لكن ليس عليّ ككاتب أو شاعر، أن أضع لبنتي قرب تلك التي وضعها من سبقني، أو أجعلها نسخة منها، قد أستفيد من شكلها وطريقة وضعها، لكن علي أن أجدد ما استطعت ليكون لي مكاني الخاص، ويكون إنتاجي الأدبي إضافة وليس زيادة لا طائل منها».
وتؤكد الظاهري بثقة أن الحضور الأدبي للجيل الجديد هو حضور قوي وسيبقى زمناً طويلاً وتقول: «الحضور الشبابي الأدبي الإبداعي حضور صارخ، وتجاربهم ثابتة وزمنها سيطول».


بيئة ولادة


رائدة القصة القصيرة في الإمارات شيخة الناخي كان لها رأيها في الظاهرة محل النقاش، حيث أكدت أن البيئة الثقافية هنا ولادة وقالت: «نحن أمة ولادة، لا ينقطع معينها ولا تجف ينابيعها، تواصل المسير بحماس وهمّة وثبات».
وتشدد الناخي على أن الاحتفاء بالرموز الثقافية من الأجيال السابقة والعودة إليها إبداعيا كمرجعيات، لا بد أن يترافق مع استكشاف المواهب الجديدة ورعايتها وفق برنامج منظم ومؤسساتي مخصص لذلك وقالت: «علينا أن نحتفي برموزنا الأدبيّة والثقافيّة من الأجيال السابقة، ونعطيها ما تستحقه من تقدير وإشادة وتكريم، وفي نفس الوقت وبالتزامن مع ذلك لا بد أن نبذل الجهود في البحث والتنقيب عن المواهب الشابّة المبدعة والاهتمام بها وتحفيزها لتواصل المسيرة وتستمر القافلة، وأقترح هنا أن على الجامعات والمدارس أن تبذل اهتماماً أكبر بالآداب والدراسات الإنسانية والثقافيّة، وأن يقوم الإعلام بوسائله المختلفة بإعطاء مزيد من الاهتمام لإنتاج الكتاب والأدباء الشباب، وتسليط الضوء على فكرهم وإبداعهم»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"