نزار باييف يفاجئ العالم بـ «الخروج السلس»!

04:00 صباحا
قراءة 5 دقائق

د. نورهان الشيخ *

في كلمة تلفزيونية مسجلة، وفي تمام عامه الثلاثين في الحكم، أعلن رئيس كازاخستان نور سلطان نزارباييف استقالته يوم 19 مارس (آذار)، ليتولى في اليوم التالي، وفقاً للدستور، رئيس مجلس الشيوخ، قاسم جومارت توكاييف، الرئاسة حتى إجراء الانتخابات الرئاسية في مارس (آذار) من العام المقبل، وتثير هذه الخطوة، المفاجئة، العديد من الدلالات.
لعل أهم دلالات هذه الاستقالة، أن الخروج السلس والآمن من السلطة، يبدو البديل الأفضل في دول الاتحاد السوفييتي السابق، ففي مشهد مماثل أعلن الرئيس الروسي بوريس يلتسين استقالته في 31 ديسمبر/كانون الأول 1999، وقدم فلاديمير بوتين خلفاً له، كذلك رفض رئيس أذربيجان حيدر علييف ترشيح نفسه للانتخابات عام 2003 لصالح ابنه الرئيس الحالي إلهام علييف. فقد أدرك هؤلاء ومنهم نزار باييف عمق الأزمة التي تمر بها بلادهم على خلفية الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها مواطنوهم، فأرادوا خروجاً «كريماً» يحفظ لهم تاريخهم السياسي ويضمن الاستقرار لبلادهم.
ويمثل ذلك نموذجاً مختلفاً تماماً لما تشهده المنطقة العربية منذ عام 2011، والتغيير العاصف في السلطة وما يصاحبه من درجات متفاوتة من عدم الاستقرار وصلت حد الحرب الأهلية وتدمير الدولة.
رغم النهضة العمرانية التي شهدتها كازاخستان، التي كانت العاصمة الجديدة «أستانا» أبرز معالمها، فإن وضع المواطن الكازاخي لم يشهد نقلة نوعية تتسق وكون كازاخستان منتجاً كبيراً للنفط والغاز، وأكبر منتج لليورانيوم في العالم، وبها بنك اليورانيوم منخفض التخصيب التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، واستطاعت جذب ما يزيد على 300 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، الجزء الأكبر منها في قطاع الصناعات الاستخراجية، وتحتوي مساحتها التي تماثل مساحة أوروبا الغربية بأسرها على احتياطات معدنية هائلة وقدرات اقتصادية كبيرة. وسبق استقالة نزار باييف ببضعة أسابيع، وفي 21 فبراير/شباط، إقالته الحكومة التي فشلت في إجراء الإصلاحات اللازمة لتجاوز التباطؤ الذي شهده الاقتصاد الكازاخي نتيجة الانخفاض الحاد في أسعار النفط وانخفاض قيمة العملة، وما صاحب ذلك من صعوبات اقتصادية متزايدة، وحالة من عدم الرضا خاصة بين العمال، وعمال قطاع النفط على وجه الخصوص، ما دفع بالسلطات الكازاخية إلى حل «اتحاد النقابات المستقلة الكازاخستاني» العام الماضي، وإدانة رئيسته لاريسا خاركوفا.
إن استقالة نزار باييف نزعت فتيل أزمة كانت تلوح حثيثاً في الأفق، فلم يكن نزار باييف يواجه تحديات يعتد بها بعد، سوى التقدم في العمر حيث يبلغ 78 عاماً، إلا إنه أراد أن ينهي حكمه على النحو الذي يؤمن له ولعائلته الضمانات الكافية، ويجنب البلاد صراعاً محتملاً على السلطة بين العشائر المختلفة داخل المجتمع الكازاخستاني. ومن الواضح أن استقالته جاءت في إطار توافقات وترتيبات داخل النخبة الكازاخية، ويعد توكاييف (65 عاماً)، إحدى الشخصيات الأكثر نفوذاً في كازاخستان ومن المقربين من نزار باييف. فقد تنازل نزار باييف عن لقب رئيس كازاخستان ليحتفظ بكونه «أب الأمة الكازاخية»، وهو لقب يضمن له الحصانة القضائية ودوراً نافذاً في إدارة الدولة. وفي تأكيد لذلك وافق البرلمان على تغيير اسم العاصمة «أستانا» إلى «نور سلطان» تيمناً باسم الرئيس نزار باييف بناء على اقتراح الرئيس الحالي توكاييف تكريماً للأول ودوره في تأسيس كازاخستان المستقلة الحديثة. وسيبقى نزار باييف ممسكاً بسلطات واسعة بعد استقالته، بفضل قانون أقر في مايو (أيار) 2018 يمنح وضعاً دستورياً للمجلس الأمني، ويتيح لنزار باييف ترؤس هذا المجلس حتى وفاته، كما سيستمر رئيساً للحزب الحاكم «نور أوتان» الذي يسيطر على 87.5% من مقاعد البرلمان، وعضو المجلس الدستوري للبلاد. وانتخبت، بالإجماع، داريجا نزار باييف ابنة الرئيس نزار باييف الكبرى (55 عاماً) رئيسةً لمجلس الشيوخ. وكانت داريجا تترأس لجنة الشؤون الخارجية والأمن والدفاع في مجلس الشيوخ، وشغلت في وقت سابق منصب نائبة رئيس الوزراء.
ويظل التساؤل حول مستقبل العلاقة بين كازاخستان وروسيا في ضوء هذه التغيرات، خاصة أن البعض حاول تفسير زيارة نزار باييف لواشنطن في يناير/كانون الثاني من العام الماضي على أنها بداية تغيير هيكلي في سياسة كازاخستان الخارجية نحو مزيد من التقارب مع الولايات المتحدة، لا سيما مع ما تردد عن مفاوضات حول إرسال الولايات المتحدة وحلف الناتو قواتهما العسكرية أو إقامة قواعد عسكرية على بحر قزوين عبر البوابة الكازاخية، وهو الأمر الذي حسمته القمة الخامسة للدول المطلة على بحر قزوين التي عُقدت في مدينة أكتاو الكازاخستانية في 12 أغسطس/آب 2018، من خلال توقيع الدول الخمس المطلة عليه اتفاقاً تاريخياً حول الوضع القانوني للبحر، نص على منع وجود قوات مسلحة للقوى الأجنبية الإقليمية والدولية في بحر قزوين، وحظر نقل الشحنات العسكرية للدول غير المطلة على البحر عبره، وتضمنت تأكيد أن تكون الدول الخمس لبحر قزوين المسؤولة فقط عن الحفاظ على الأمن البحري به، وأن أرض أي دولة من الدول المطلة على بحر قزوين لا يمكن استخدامها ضد دولة أخرى.
وتعد العلاقة بين كازاخستان وروسيا استراتيجية لكليهما، وتمثل كازاخستان امتداداً جغرافياً وبشرياً طبيعياً لروسيا، حيث تشاطر الأخيرة أطول حدود، (أكثرمن ستة آلاف كيلومتر)، ويمثل الروس حوالي ربع سكان كازاخستان. كما تعد كازاخستان شريكاً استراتيجياً واقتصادياً مهماً لروسيا، باعتبارها عضو منظمة الأمن الجماعي، وهي حلف عسكري يضم البلدين وعدداً من دول الاتحاد السوفييتي السابق، وهي أيضاً عضو مؤسس وحجر زاوية في الاتحاد الأوراسي الاقتصادي الذي يمثل منطقة تجارة حرة في قلب الفضاء السوفييتي. وتعتبر كازاخستان الشريك التجاري الأول لروسيا بين دول المنطقة، ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين حوالي 20 مليار دولار، ويمثل أكثر من 60% من إجمالي تجارة كازاخستان.
وتعتبر روسيا مستثمراً مهماً في كازاخستان خاصة في مجال الطاقة، وفي عام 2002 تم تأسيس مؤسسة «كاز روس جاز» المشتركة بين البلدين، وتشتري شركة «غازبروم» الروسية سنوياً حوالي 8 مليارات متر مكعب من الغاز من كازاخستان. وهناك استثمارات روسية وكازاخية لتوسيع شبكة الأنابيب التابعة لكونسورتيوم بحر قزوين وتطوير خط أنابيب أتيراو- سامارا. على صعيد آخر، تم تأسيس مؤسسة «زاريتشنويه» لاستخراج اليورانيوم بين روسيا وكازاخستان، وفي كازاخستان تقع قاعدة بايكونور الفضائية الروسية التي يتم منها إطلاق المركبات والأقمار الصناعية.
وقد كشف الكرملين في 21 مارس (آذار)، أن نزار باييف، أبلغ الرئيس فلاديمير بوتين عبر اتصال هاتفي نيته الاستقالة قبل عدة ساعات من الإعلان عنها، ويعكس ذلك عمق التحالف بين البلدين وكذلك العلاقات الشخصية الخاصة بين نزار باييف وبوتين. واعتبر رئيس لجنة مجلس الدوما الروسي لشؤون رابطة الدول المستقلة، ليونيد كالاشنيكوف، أن تعيين توكاييف قائماً بأعمال الرئيس الكازاخي قرار «إيجابي جداً» بالنسبة إلى روسيا، وسينعكس إيجاباً على العلاقات بين البلدين.
من الذكاء والحكمة أن تدرك القيادة السياسية متى عليها الرحيل وإفساح المجال لدماء جديدة في الحكم، حفاظاً على تاريخها ومكانتها، والأهم على الاستقرار السياسي للدولة على الصعيدين الداخلي والخارجي.


* أكاديمية وباحثة مصرية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"