«الجزيرة الكورية».. برميل بارود مجدداً

02:55 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. رضا محمد هلال*

لم تكد تمر سوى شهور معدودة على التهدئة في شبه الجزيرة الكورية إثر اتفاق كوريا الشمالية مع الولايات المتحدة على تجميد عمليات تطوير البرنامج النووي الكوري، وتجريب وإطلاق طرز وأنواع جديدة من الصواريخ البالستية؛ حتى بدأت مع بداية أكتوبر الماضي ملامح ورياح التوتر تعود مرة أخرى للمنطقة.
يمكن رصد مصادر رياح وعواصف عودة التوتر على النحو التالي:

1- اتباع المفاوض الكوري الشمالي استراتيجية التفاوض أثناء الحرب: تعلم الرئيس الكوري كيم جونج أون دروساً كثيرة من عملية التفاوض التجاري الصيني - الأمريكي؛ وجاء الدور الآن على الرئيس ترامب لكي تمارس معه كوريا الشمالية ذات الأساليب التفاوضية، والتي تعددت مسمياتها ما بين «التفاوض مع وجود الخنجر على مائدة التفاوض»، أو «التفاوض مع وضع الخصم تحت ضغط التصعيد».
ففي بداية أكتوبر 2019 أعلنت كوريا الشمالية موافقتها على عقد محادثات لفرق العمل الثنائية المتخصصة مع الولايات المتحدة في السويد يوم ال 5 من أكتوبر 2019 على أن يسبق ذلك إجراء فرق العمل اتصالاً أولياً في اليوم السابق، أي يوم ال 4 من أكتوبر، وفقاً لنائب وزير الخارجية الكوري الشمالي، تشوي سون هوي، الذي توقع - في حال إخلاص الولايات المتحدة لنياتها تجاه كوريا الشمالية - أن تؤدي المفاوضات على مستوى فرق العمل إلى تسريع التطور الإيجابي للعلاقات بين كوريا الديمقراطية الشعبية والولايات المتحدة.
وصاحب الخطاب الرسمي الكوري بشأن عملية تفاوض فرق العمل البدء في استئناف تجارب تطوير الصواريخ البالستية، والتي جاءت أولى خطواتها في اليوم التالي ال 2 من أكتوبر 2019، حيث أجرت عدة تجارب صاروخية قصيرة المدى تم تفسيرها على نطاق واسع بأنها محاولة من كوريا الشمالية للحصول على مكاسب أو نفوذ يتعلق بتحسين مركزها التفاوضي قبل استئناف المحادثات الثنائية على مستوى فرق العمل بالسويد.
وفي خلال الأيام الثلاثة السابقة للمحادثات الثنائية أجرت كوريا الشمالية عدة تجارب صاروخية أخرى أهمها: إطلاق صاروخ جديد من طراز بوكجوكسونج-3 يبلغ مداه نحو 1300 كم، وانطلق من منصة إحدى الغواصات تحت الماء، وهو ما أقلق كلاً من كوريا الجنوبية واليابان اللتين أعلنتا إدانتهما لهذا السلوك الذي يمثل انتهاكاً لقرارات مجلس الأمن الخاصة بكوريا الشمالية.

فزاعة.. وابتزاز

2- استخدام الولايات المتحدة «الفزاعة الكورية الشمالية» لابتزاز كوريا الجنوبية واليابان: لجأت إدارة ترامب خلال الشهرين الماضيين إلى التهويل من خطورة تجارب صواريخ كوريا الشمالية على أمن واستقرار كوريا الجنوبية واليابان، ومن ثم زيادة المخاطر التي تتعرض لها القوات الأمريكية المرابطة على أراضي الدولتين لحمايتهما من التهديدات المحيطة بهما عموماً والكورية الشمالية خصوصاً، سعياً لتحقيق المزيد من المكاسب الاقتصادية، خاصة قبل عام ونصف العام من تجديد اتفاقات التحالف الأمريكي العسكري، وبقاء القواعد العسكرية الأمريكية في كل من اليابان وكوريا الجنوبية؛ لذا اتجهت الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب لمطالبة كوريا الجنوبية واليابان في نوفمبر 2019 بتوقيع اتفاق جديد معهما يتم بمقتضاه زيادة المساهمة الكورية في تكلفة تواجد القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية من 890 مليوناً إلى أربعة مليارات دولار؛ وكذلك زيادة المساهمة اليابانية إلى ثمانية مليارات دولار بدلاً من ملياري دولار. واستخدم وزير الدفاع إسبر ذات مفردات وكلمات رئيسه في تبرير المطالب الأمريكية من أن الدولتين أصبحتا من الدول الغنية، ويجب عليهما دفع المزيد من الأموال لقاء حمايتهما من التهديدات المحيطة بهما؛ فضلاً عن زيادة المخاطر التي تتعرض لها القوات الأمريكية المتواجدة على الأراضي الكورية واليابانية جراء استئناف كوريا الشمالية لبرنامجها الخاص بتطوير الصواريخ البالستية. وأعلنت كوريا الجنوبية واليابان اعتزامهما التفاوض مع الولايات المتحدة بهذا الشأن على الرغم من كثرة المظاهرات الشعبية في الدولتين الرافضة لابتزاز الولايات المتحدة، والمطالبة للحكومتين برفض تجديد اتفاقات بقاء القواعد والقوات الأمريكية على أراضيهما.

توتر بين بيونج يانج وسيئول

3- توتر العلاقات بين الكوريتين الشمالية والجنوبية: عاودت سمات التوتر والصراع ظهورها في علاقات البلدين التي اتسمت خلال الفترة بين عامي 2017 و2018 بالهدوء والاستقرار؛ وتكمن أسباب ذلك في: اتفاق كوريا الجنوبية مع الولايات المتحدة على عودة توريد الطائرات والمعدات العسكرية الأمريكية المتطورة لكوريا الجنوبية، إلى جانب استئناف المناورات العسكرية المشتركة بينهما، وهو ما اعتبرته كوريا الشمالية استفزازاً لها، وهو ما دفعها لاستئناف برامجها لتطوير الصواريخ البالستية لحين التوصل إلى اتفاق شامل مع الدولتين؛ وتعثر الحوار بين البلدين منذ فشل قمة هانوي في فبراير 2018 بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون؛ وإعلان الرئيس الكوري الجنوبي مون جيه إن أمام البرلمان في نهاية أكتوبر 2019 زيادة ميزانية الدولة المخصصة للدفاع في عام 2020 بنسبة 7 % عما كانت عليه في 2019 كي تصبح 50 مليار وون (66.37 مليار دولار) لتعزيز النظام الدفاعي الأساسي عبر زيادة عدد غواصات الجيل القادم، وأقمار المراقبة الصناعية.

فشل الضغوط

4- قصور تكتيك المفاوض الأمريكي، ونجاح نظيره الكوري الشمالي: تبنى المفاوض الأمريكي ممارسة كافة الضغوط على مفاوضي الدول الأخرى، بما يضمن تقديمهم «جدول التفاوض» قبل عملية التفاوض ذاتها؛ غير أن هذا الأسلوب التفاوضي لم يجد مجالاً للتطبيق مع مفاوضي كوريا الشمالية الذين أعلنوا انهيار «المحادثات النووية»، نظراً لكونها لم تفِ بتوقعات الجانب الكوري التي اشتملت على تقديم الإدارة الأمريكية تنازلات بشأن إنهاء العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية؛ فضلاً عن إعلان القيادة الكورية عدم اهتمامها بمواصلة المفاوضات ما لم تتخلَّ الولايات المتحدة عما وصفته ب«سياستها العدوانية» ضدها؛ وأمهلت الولايات المتحدة حتى نهاية 2019 لاتخاذ إجراءات عملية لسحب سياسة المعاداة ضدها بشكل لا رجعة فيه، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن وإبرام اتفاقات لإنهاء حالة الحرب في شبه الجزيرة الكورية.
مما سبق جميعه نخلص إلى نجاح المفاوض الكوري الشمالي في خلق الانطباع بأن سبب الجمود السياسي وعودة التوتر لشبه الجزيرة الكورية هو تعنت الجانب الأمريكي، فضلاً عن إجبار الولايات المتحدة خلال مهلة الأسبوعين القادمين على أحد أمرين: إما العودة بموقف تفاوضي يتوافق مع المطالب الكورية الشمالية؛ أو إرغام الرئيس ترامب في نهاية المطاف على التواصل مع الزعيم الكوري الشمالي على مستوى القمة لإبقاء الدبلوماسية حية، ومن ثم بقاء الأوضاع على ما هي عليه لحين الانتهاء إما من عملية محاكمة ترامب، أو إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2020، وانتخاب رئيس أمريكي جديد باستراتيجية كاملة وواضحة للتفاوض مع كوريا الشمالية.

* باحث وأكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"