موتنا والإعلام السادي

02:26 صباحا
قراءة 3 دقائق
نبيل سالم
عندما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001 في الولايات المتحدة، سقط حسب التقديرات الأمريكة نحو ثلاثة آلاف قتيل، وربما أكثر، حسب تقديرات أخرى. وخلال هذه الأحداث أو بعدها، لم ير العالم جثث الضحايا الأمريكيين، التي يفترض أن يكون معظمها محترقاً، أو مشوها بسبب الحريق الهائل الذي اندلع في برجي التجارة العالميين في نيويورك. ورغم أن الولايات المتحدة استخدمت هذه الاعتداءات ذريعة لاحتلال وتدمير بلدين هما العراق وأفغانستان، تدميراً شبه كامل، وجيشت الكثير من الدول للحرب معها، في ما اسمته الحرب على الإرهاب، فإن أجهزة ووسائل الإعلام الأمريكية حرصت بشدة على عدم إظهار جثث الضحايا، رغم النجاح الكبير للماكينة الإعلامية الأمريكية في تحريض العالم على ما تسميه الإرهاب.
ويبدو أن حرص الولايات المتحدة على عدم نشر صور الضحايا نابع من رغبتها في احترام هؤلاء الضحايا، لدرجة أنه في المتحف الذي أقيم في موقع الحدث المؤلم، يمنع المسؤولون عن هذا المتحف الذي يخلد الكارثة، من التصوير احتراماً لأرواح من قضوا، وتقاسموا مأساتهم إلى آخر لحظة.
«حبيبي، استمع جيداً. لقد تم خطف الطائرة. أخبر أطفالي أنني أحبهم كثيراً».. هذا تسجيل صوتي لمضيفة الطيران سيسي روس في مكالمة لزوجها قبل أن ترحل إلى الأبد.
مقطع صوتي مؤلم، ومؤثر أكثر من أي صورة لجثث محترقة، أو مشوهة، لكنه يحترم روح الضحية بعدم عرض جثتها، أو جثث الآخرين من الضحايا على شاشات التلفزة، كأنها مادة إعلانية.
هذه المقدمة في الواقع قادتنا إليها تلك الحفلات السادية التي برعت بها وسائل الإعلام العربية، من دون أن تدري، إذ يحق لنا التساؤل عن أهمية عرض جثث الضحايا الذين يسقطون في ساحات الصراعات العربية المنتشرة في أكثر من بلد عربي، بعد ما سمي ب(الربيع العربي) حيث لا تخلو نشرة إخبارية من صور القتلى، وأشلاء الضحايا التي تعرض بشكل مقزز، ومناف جداً لقيم الإنسانية، وقواعد احترام أرواح وكرامة الضحايا، حتى بات موتنا المجاني مع الأسف، أشبه بحفلات السادية التي شهدتها العصور الوسطى التي كان خلالها السجناء يُقدمون للكلاب المفترسة، لإرواء سادية النبلاء الذين تستثيرهم وتوقظ غرائزهم الحيوانية صور الضحايا وتعذيب الآخرين.
من المؤسف جداً أن القائمين على معظم وسائل الإعلام العربية، لم يدركوا بعد خطورة ما يفعلون، من خلال نشر صور القتلى، وجثث الضحايا، وأشلائهم، بهذه الصورة البشعة التي تنافي الأخلاق والقيم والمبادئ الإنسانية.
فمن الناحية الأخلاقية يعد هذا العمل مشيناً لا يليق بحرمة الموتى، كما أن كل الديانات والشرائع ترفض مثل هذه الأعمال، وتعتبرها اعتداءً على كرامة الموتى. فضلاً عن أنها قد تسهم في نقل رسائل مغايرة لما يراد منها، كما تسهم في إقناع العقل العربي، بدونية حياتنا إذا ما قيست مع الشعوب الأخرى، لدرجة بات عدد قتلانا يذكر بمرور الكرام، لكثرة ما يتردد في وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، والمقروءة، زد على ذلك أن نشر صور الضحايا بهذه الصورة المقززة، ولا سيما ما يتعلق منها بالجرائم التي يرتكبها الإرهابيون، إذا ما تكرر بشكل يومي فهو يخدم الإرهاب الذي يجب محاربته بطرق علمية ونفسية سليمة، إذ كيف يعقل أن تتحول وسائل الإعلام إلى منابر للإرهابيين، الذين يتعمدون بث صور مرعبة، بهدف ترويع الناس وبث الذعر في صفوفهم، وأكبر دليل على ذلك هو أشرطة الفيديو التي يبثها تنظيم «داعش» الإرهابي، ومنها جريمة إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة في فبراير/شباط من العام 2015، وجريمة إحراق جنديين تركيين مؤخراً، وبينهما جرائم القتل بواسطة الذبح التي عكفت التنظيمات الإرهابية على ارتكابها في أكثر من مناسبة.
كما لابد من الإشارة هنا إلى أن نشر هذه الصور المريعة، على شاشات التلفزة، وإن كان ناشروها يظنون أنهم يخدمون الضحايا من خلال تسليط الضوء على محنتهم، إلا أن أحداً لا يمكنه إنكار الأثر النفسي الذي قد تتركه هذه المشاهد في نفوس المراهقين والأطفال، الذين يفقد الموت رهبته بالنسبة اليهم، ويزداد ميلهم إلى العنف بسبب ما قد يشاهدون. ويحضرني هنا قرار حكومة مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، بتقليص الألعاب النارية للأطفال في الفترة التي دارت فيها حرب جزر الفوكلاند عام 1982 خشية انتشار الميول العنفية في صفوف الأطفال والمراهقين.
إزاء ما تقدم، وهو ليس سوى أمثلة بسيطة، يمكن القول إن نشر صور الضحايا، وجثث الموتى، بهذه الطريقة الاستعراضية، لا يسيء إلى كرامة الضحايا فقط، وإنما قد يشير إلى قصور في الرؤية الإعلامية أيضاً، التي يجب أن تقوم على احترام عقول الناس، ومشاعرهم أيضاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"