حين يبيض الفساد ويفرِّخ

03:32 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبدالعزيز المقالح
عنوان هذا الحديث مأخوذ بتصرف من تعبير قديم لواحد من أهم أعلام الثقافة العربية وهو الجاحظ (عثمان بن بحر) ولم يكن هذا الرائد كاتباً ومفكراً فحسب؛ بل كان عالماً نفسياً خبيراً بطبائع النفوس وتحولاتها، وله في هذا المجال كشوفات سبق بها عصره والعصور اللاحقة. وسبق له أن تحدث عن الفساد وكيف ينشأ ويتمكن من التغلغل في المجتمعات ويدمّر تكويناتها وأنظمتها، وهو يوجز ذلك في عبارة قصيرة جداً تقول: «الفساد أسرع إلى الناس وألصق بالطبائع» وكأنه هنا في هذا التعبير الوجيز يفرق بين الفساد والسداد.
الفساد انحراف سهل المنحدر والسداد صعود صعب المرتقى، والناس بطبائعهم السطحية يميلون إلى السهل ويسارعون إلى الاستجابة لمن يغريهم ويزيّن لهم النجاح السريع عبر تلك السهولة المنحرفة والمنافية للطبائع الكريمة والفاضلة التي من شأنها أن تجعل الحياة أكثر سعادة وطمأنينة وانتظاماً.
وفي عبارة أخرى لذلك المفكر الجليل تطول بعض الشيء وتأخذ مداها في التفسير والتحليل وتضعنا بوضوح إزاء تحكم الفساد وسرعة انتشار أنصاره ومؤيديه حين يقول في كتاب «البيان والتبيين» وهو من أهم كتبه وأغناها بالنظرات الاجتماعية والنفسية: «المعنى الحقير الفاسد والدنيء الساقط يعشش في القلب، ثم يبيض ويفّرخ، فإذا ضرب بجرانه ومكن لعروقه، استفحل الفساد وبزل، وتمكن الجهل وفرّخ، فعند ذلك يقوى داؤه، ويمتنع دواؤه». إنها لوحة وليست عبارة هذه التي ترسم للفساد صورة واقعية تتجلى دلالاتها بوضوح، وتكشف عن مقدرة هذا الأخطبوط على التجذّر في المجتمعات يساعده الجهل على الاستحواذ والتمكن والسيطرة على أكثر شرائح المجتمع تنكراً للقيم في مستواها الرفيع ودورها الباني والواقي من الانهيارات.
وبما أن للفساد أشكالاً وألواناً، وله أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية فإن نجاحه في تدمير مجال واحد من هذه المجالات كفيل بنجاحه في تدمير البقية وفتح الأبواب مسرعة لاختلال التوازن وهو ما تعاني منه معظم الشعوب في عالم اليوم، يستوي في ذلك بعض الشعوب الأكثر تقدماً والأكثر تخلفاً، فالفساد إن لم يكن المجتمع - قبل أي نظام- واعياً لمساراته سيجد طريقه السهل إليه ويبدأ في تفريخ قياداته وأعوانه وإذا ما استفحل الداء فإن الدواء - كما قال الجاحظ - لا ينفع ولا يمنع من الوقوع في قبضة الفراغ المطلق والخراب المطلق. وبعض أقطارنا العربية دون حاجة إلى ذكر الأسماء تمر بهذه الحالة المؤسفة، وكلما حاولت الخروج من أزمتها أو بالأحرى من أزماتها وجدت أن الحل بات من الصعوبة بمكان فقد طال زمن الإهمال وتأخرت الرغبة في الإصلاح وتمكن الفساد من أن ينشب أظافره في المفاصل الأقوى والأعمق في الكيان الإداري ولا خلاص إلاّ بمعجزة وليس هذا أوان المعجزات بل أوان الحكمة والعقل والنظر إلى عواقب الأمور قبل أن تقع.
وكما ألمحنا وأكدت عليه الإشارات السابقة للجاحظ فإن الفساد لا يولد بين يوم وليلة، وإنما ينشأ ويترعرع تحت عيون الأنظمة وفي غياب الوعي المجتمعي، وهو -أي الفساد- لا يعلن عن نفسه ويخرج إلى الواقع إلاّ بعد أن يكون قد استكمل عدته وعتاده، وصار قادراً على بسط نفوذه بالاعتماد على القوى النافذة تلك التي تحميه وتمكن له من استكمال التغلغل داخل صفوف المجتمع وفي أعلى مصادر القرار الحكومي. وهنا تتحدد أبعاد المشكلة الراهنة وتأخذ مداها الأوسع في الأقطار الفقيرة خاصة ذات الإمكانات الاقتصادية المحدودة حيث يصبح الفساد نظاماً وقانوناً ويتمتع بكل الحصانات الخارجية عن كل القيم وأخلاقيات المجتمعات السوية، وما يؤسف له أن الحملات الإعلانية التي تتابع صعود الفساد والعمل على فضح انحرافاته الطاغية لا تجد من يوليها قدراً من الاهتمام ولا يزال بعضهم ينظر إليها بوصفها «كلام جرايد».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"