حلف الأطلسي يعيش أزمة وجودية

05:29 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

يعيش حلف الأطلسي في هذه الأيام أزمة كبرى، فدوره وحتى سبب وجوده، تحيط بهما الشكوك. هل يركز جهوده على حماية الحلفاء في الشرق أو على مكافحة الإرهاب الآتي من الجنوب؟ لم تعد الثقة بالزعامة الأمريكية كما كانت عليه قبل وصول الرئيس ترامب إلى السلطة، والذي معه لم يعد معروفاً ما تريده واشنطن من الحلف.
التغيرات الجوهرية التي طرأت في المجال الأمني منذ تبني الحلف للمفهوم الاستراتيجي الجديد في العام 2010، والاختلافات بين الدول حول مستقبل الحلف، تدعو إلى توضيحات باتت ضرورية. إذ إن الحلف بات يحتاج إلى عقيدة جديدة تشرح لماذا وكيف عليه الاهتمام بأمن الدول الأعضاء؟. وفي الوقت نفسه يحتاج إلى إعادة بناء العلاقة مع روسيا على قواعد جديدة. ففي الواقع هناك نزاع مع هذه القوة العظمى حول طبيعة النظام العالمي والأمن فيه وفي القارة الأوروبية على وجه التحديد. هذا النزاع تتواجه فيه القوتان العظميان، الولايات المتحدة وروسيا، ولم يجد الحلف حلاً له، ولا حتى إلى اتفاق بين أعضائه حول طريقة التوصل إلى حل.
بالنسبة لمكافحة الإرهاب هناك خلاف داخل الحلف حول الدور الذي ينبغي أن يلعبه بالتحديد ضد الإرهاب الدولي. هل ينبغي أن يركز جهوده على هذه المسألة بالتحديد كما يطالب الرئيس ترامب أم يكتفي بالدور الرمزي الذي لعبه في الحرب على «داعش» تحت القيادة الأمريكية؟ واشنطن تؤمن بأن الإرهاب المنتظم بطريقة عسكرية تنبغي مواجهته بوسائل عسكرية. لكن القوات المسلحة التي تحاربه ليست مجهزة لتأمين الحماية ضد التفجيرات التي تستهدف التجمعات البشرية، رغم أن الإرهابيين يستخدمون الطرق العسكرية. حلف الأطلسي ليس مهيأً لقيادة حرب شاملة ضد الإرهاب، ولا للوقاية من العمليات الإرهابية أو منعها قبل وقوعها.
العمليات العسكرية التي نفذها الحلف في أفغانستان وليبيا لم ترافقها مفاهيم سياسية مناسبة، تسمح بالعودة إلى الحياة الطبيعية، لذلك لم يستعد البلدان الأمن، ولا الاستقرار بعد هذه العمليات.
النقاش داخل الحلف حول الميزانيات العسكرية الوطنية لا يذهب في الاتجاه الصحيح. فهو يدور حول المساهمات المالية للدول الأعضاء، والتي تطلب إدارة ترامب أن لا تقل عن اثنين في المئة من الناتج الإجمالي الداخلي، وهذا ما ترفضه بعض الدول، وتتلكأ في تنفيذه دول أخرى. نقاش آخر برز مؤخراً حول الردع النووي. ففي نظر البعض لا يزال الأمن الأوروبي محتاجاً إلى الردع النووي الأمريكي، لكن دولاً أخرى ترى عكس ذلك.
ومن المهم للحلف أن تقوم ألمانيا وشركاؤها الأوروبيون بالاتفاق على دور الحلف في الأمن الأوروبي مستقبلاً. وفي هذا المضمار من الضروري معرفة ما إذا كانت السياسة الأمريكية القائمة على شعار «أمريكا أولاً» تتفق مع المصالح الأوروبية، أم أنها مجرد ظاهرة عابرة ستنتهي مع رحيل إدارة ترامب. هذا الأخير أطلق تصريحات ضد الحلف قبل أن يعود عنها، لكنه بقي مصراً على مشاركة أكبر للحلفاء في الأعباء المالية للحلف.
تنوع التحديات التي يجد الحلف نفسه أمامها تذهب أبعد من الأزمات التقليدية التي تمكن الحلف من تخطيها في الماضي، حينما كان «الأشرار» يقبعون في الشرق، وكانت المخاطر واضحة الجهة والمصدر. اليوم لا تزال المخاطر الآتية من الخارج كثيرة ومتنوعة، لكن التهديدات أضحت في الداخل أيضاً. الهجمات الإرهابية باتت تأتي من وسط المجتمعات الغربية، وهي ليست إلا وجهاً من وجوه التغيرات الجوهرية التي تواجه سياسات الأمن الوطنية الأوروبية. اليوم بات «الأشرار» يأتون من الجنوب أو هم موجودون في داخل المجتمعات الغربية نفسها.
وهكذا يفتقر الحلف إلى الوحدة في الكثير من المجالات، ويجد نفسه عاجزاً عن الإجابة عن تساؤلات مهمة تتعلق بسياسات الأمن. في الوقت نفسه ليس هناك من اتفاق داخل الحلف حول ما يبرر استخدام القوات المسلحة وفي أي ظروف وشروط. هناك دول جاهزة لإرسال قوات عسكرية للتدخل في الأزمات. لكن دولاً أخرى ليست جاهزة لذلك أو بطريقة جد محدودة. لم يعد الغرب موحداً في مواجهة خصم يمثل تهديداً لدوله، وهذا ما أبعد هذه الدول عن بعضها بعضاً.
أضف إلى ذلك تنامي الأحزاب الشعبوية والمتطرفة، وحتى العنصرية في بعض الدول حيث تمارس تأثيراً في سياساتها. وفي ظروف يعجز فيها الاتحاد الأوروبي عن التوصل إلى سياسة دفاعية مشتركة أو عن طرح نفسه بديلاً عن الزعامة الأمريكية للحلف، فإن هذا الأخير بات بصدد التخلي عن صفته كحلف للغرب، ذلك أن الغرب نفسه قد لا يعود موجوداً إذا استمرت الأمور على ما هي عليه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"