الحكومة الشعبوية الإيطالية نعمة أم نقمة ؟

05:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

تعاني العلاقات الإيطالية-الأوروبية صعوبات بسبب قضية المهاجرين. وقد رفضت روما استقبال الباخرة «أكواريوس» التي تحمل 600 مهاجر، وهدد وزير الداخلية زعيم «رابطة الشمال» اليمينية المتطرفة ماتيو سالفيني بإغلاق الموانئ الإيطالية في وجه السفن التي تحمل مهاجرين إذا لم تستقبل مالطا سفينة «أكواريوس» التي توجهت إلى إسبانيا بعد الرفض المالطي.
لقد نجح الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا في منع تعيين باولو سافونا وزيراً للاقتصاد في الحكومة الجديدة بسبب معاداته لألمانيا وللعملة الموحدة، لكن المفارقة أنه أضحى وزيراً مكلفاً بالشؤون الأوروبية تحت وصاية إنزو ميلانوزي وزير الشؤون الأوروبية الذي يحظى برضا الاتحاد الأوروبي.
الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أفضت إلى وصول الائتلاف الشعبوي إلى الحكم تكشف إلى أي مستوى وصل تدهور علاقة الإيطاليين بالاتحاد الأوروبي، بعد أن كانت بلادهم دولة مؤسسة للسوق المشتركة وللاتحاد. فمنذ خمسينات القرن المنصرم إلى نهايته كان المجتمع الإيطالي،بمشاربه وتكويناته المختلفة، يرى أن أوروبا مساهمة في حل مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى تلك المرتبطة بالعلاقة المضطربة بين الشمال الصناعي الغني والجنوب الفقير والمافيوي.
لكن منذ بداية الألفية الحالية أخذت هذه القناعة بالتراجع التدريجي وبدأت استطلاعات الرأي تبين عن رأي عام إيطالي يعتبر، في أغلبيته، أن الانتماء للاتحاد الأوروبي لم يعد عنصر استقرار اقتصادي ولا عامل نمو. فالبطالة، لا سيما في فئة الشباب ترتفع بشكل ملحوظ وتتراجع إنتاجية العمل والقدرة التنافسية للمصانع والشركات. أما الدين العام فبات الأعلى في أوروبا بعد اليونان والقطاع المصرفي أضحى الأضعف أوروبياً. ومن الناحية الديمغرافية غدت إيطاليا من البلدان التي يتراجع فيها عدد السكان، في وقت تعاني فيه المرأة صعوبات جمة للانخراط في سوق العمل.
الأحزاب الشعبوية الناشئة اختارت أوروبا كبش فداء فحملتها المسؤولية. ففي رأيها بدأت الأزمة الاقتصادية بالتزامن مع الدخول في اليورو.
خلال القرن المنصرم كانت إيطاليا بلداً يصدّر المهاجرين لكنها أضحت بلداً يستوردهم، الأمر الذي بات واضحاً بشكل فاقع في العقد المنصرم. واستغلت الأحزاب الشعبوية هذا الوضع لتحمّل المهاجرين مسؤولية ارتفاع معدل البطالة والجريمة وحتى المافيا.
والحقيقة أن الدول الأوروبية عموماً لم تبد أي تضامن حيال إيطاليا التي استقبلت، خلال السنوات المنصرمة، مئات الآلاف من المهاجرين وطالبي اللجوء الهاربين من حروب «قوس الأزمات» الممتد من الشرق الأوسط إلى إفريقيا جنوبي الصحراء. فبين العامين ٢٠٠٢ و٢٠١٦ ارتفع عدد الأجانب الذين يقطنون إيطاليا من ١،٣ مليون إلى خمسة ملايين، وهذا الرقم يمثل ٨٪ من عدد سكان إيطاليا البالغ ٦١ مليوناً، وهذا الوضع شبيه بما هي عليه الحال في فرنسا حيث يمثل الأجانب نسبة ٨،٩٪ من عدد السكان البالغ ٦٧ مليوناً.
إن عزوف معظم شركاء إيطاليا الأوروبيين عن استقبال المهاجرين وعن مراجعة اتفاقية دبلن التي تفرض إعطاء وضعية لاجئ أو إقامات شرعية لمن يدخل أراضيها هرباً من الحرب أو الاستبداد، غذى الشعور لدى الإيطاليين بأن الاتحاد الأوروبي يخدعهم. هذا الأمر معطوف على الأزمات الداخلية دفع فئة كبيرة ممن كانوا يؤيدون الاتحاد إلى التراجع عن تأييدهم، ما فتح المجال أمام الخطاب التبسيطي الديماغوجي السيادوي والذي راح يكتسب المزيد من الشعبية التي أوصلته إلى الحكم.
والسؤال: هل تتجه الأمور نحو طرح استفتاء للخروج من الاتحاد الأوروبي، كما فعلت بريطانيا، أو أقله من اليورو؟
ليس من السهولة الإجابة على هذا التساؤل في الوقت الراهن في انتظار نجاح أو فشل الحكومة الائتلافية الجديدة في تنفيذ وعودها وبرنامجها لجهة خفض الضرائب وزيادة الإنفاق العام وعدم الالتزام بمعايير معاهدة ماستريخت، وذلك من دون الخروج من اليورو. والأرجح، بحسب المراقبين، أنها لن تقدر على ذلك. لذلك سيكون من الأسهل عليها التركيز على مسألة الهجرة واللجوء، وقد شرعت في تنفيذ وعودها في هذا المجال. وفي محاولة لعدم استفزاز الشركاء الأوروبيين كما الناخبين الذين صوتوا لها احتجاجاً وليس تبنياً لخطابها الانعزالي فإنها قد تلجأ إلى تبني خطاب سيادوي قومي-أوروبي هذه المرة. هذا الخطاب يمكن تمريره داخلياً وأوروبياً أكثر من خطاب العزلة والخروج من الاتحاد أو اليورو. وقد تتلقف بروكسل الرسائل الاحتجاجية التي تصدرها المزيد من الشعوب الأوروبية ( في انتخابات الثالث من يونيو/حزيران الجاري فاز اليمين المتطرف في سلوفينيا) فتعمد إلى القيام بإصلاحات باتت ضرورية. وبذلك فقد يشكل وصول الأحزاب الشعبوية إلى الحكم نعمة وليس نقمة بمعنى فرصة لإعادة النظر بالعديد من الاتفاقيات والقوانين الأوروبية في اتجاه تمتين البناء الأوروبي وليس هدمه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"