الديمقراطية.. نعمة مطلوبة أم معطوبة؟

04:53 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

قضينا، أنا وكثيرون، الأسابيع الأخيرة نراقب، وبعضنا يمارس، جولة حامية الوطيس في لعبة شد الحبل بين وجهتي نظر في الديمقراطية. هذه اللعبة نتداولها عبر القرون. لعبة لا تمل. الفائز فيها غير واثق تماماً من اكتمال فوزه، والخاسر واثق تماماً من عودته للعب، مستفزاً الفائز، ومتحدياً. العلاقة وثيقة بين وجهتي النظر في الديمقراطية والثقافة السائدة. قيل كثيراً، وجرى تفنيد أغلبه، عن شعوب لا تصلح لممارسة الديمقراطية، وقد ثبت تاريخياً أن معظم الذين أصدروا هذا القول، أو رددوه، أو قنّنوه، كانوا بالممارسة والمصلحة والأخلاق أعداء للديمقراطية، أو أدركوا مبكراً أنهم لا يصلحون لقيادتها. وتؤكد تجارب الحكم منذ فجر السياسة أن إدارة نظام حكم ديمقراطي أصعب جداً من إدارة نظام غير ديمقراطي.
للوهلة الأولى تبدو الحقيقة ضائعة. متحدثون رسميون وإعلاميون في بعض دول الغرب ينكرون أن الديمقراطية في انحسار. ويقولون انظروا إلى إفريقيا فهناك تتكاثر حكومات تبنت مبدأ تداول السلطة، فيأتي الرد أنهم عند التداول تراجعوا. ويقولون إن حكاماً أقاموا طويلاً في السلطة بدأوا يتخلون عنها، فيخرج من يكمل أنهم ما تخلوا إلا تحت ضغط شارع عنيد، أو عنف مبيت. كلهم يذكرون صعود الموجة الثانية من هبّة، أو انتفاضة، أو ثورة، وصفت تارة بالملونة، وتارة بالزهور، وتارة ثالثة بالربيع، راح الظن إلى أنها كانت موجة وحيدة كاسحة وانكسرت، ثم انحسرت، مخلفة تشوهات سياسية بلا عدد، أو حدود. ثم انحسر الظن. فالموجة الثالثة هي الآن في أوجها، وتهدد بالتمدد في اتجاه المغرب العربي. أما الاستقرار فبقي في أغلب الأحوال سراباً. في إفريقيا ابتعد مناله وتعززت الشكوك في صدقية الصناديق الانتخابية، ويكاد لا يخلو ركن في قارتنا السمراء من تدخلات أجنبية في شكل مرتزقة، أو قوات نظامية.
منشغلون في أكاديميات الغرب بالبحث وراء ظاهرة انحسار الديمقراطية. انشغلوا أولاً بالتدقيق في الظاهرة، وتحديد ملامحها، وحدودها، وعندما تأكدوا من أن الانحسار واقع فعلاً، ومرشح للتوسع، انتقلوا إلى البحث في الأسباب. مدارسهم عدة، وأساليبهم متنوعة، وانتماءات أكثرهم وحواراتهم، بخاصة الأيديولوجية، صريحة ومعلنة. البعض منهم يلقي الآن باللوم على العولمة، تلك المرحلة من عقدي السبعينات والثمانينات التي انطلقت فيها، ومعها، ومنها، ثورات حقيقية في مجالات التكنولوجيا، وحرية التجارة والاتصالات، وانتقال البشر، والتوسع في استخدام العقول غير البشرية في الإنتاج، والتوزيع، والإعلان، والحرب. هؤلاء يزعمون أن هذه المرحلة من العولمة أطلقت شياطين، كان الظن أنها همدت، أو تحولت. من هذه الشياطين، وربما في صدارتها، قضية الهوية، بل وأزمات الانتماء بصفة عامة، هذه بطبيعتها والانفعالات المصاحبة لها أثارت أسئلة لم يهتم بإثارتها منظرو المراحل السابقة في التطور السياسي. هذه الأسئلة تموج بها المجتمعات الأكاديمية العربية بخاصة، والشرق أوسطية عامة، وكذلك الإفريقية. هي نفسها الأسئلة التي تفضل مؤسسات وأجهزة الدولة غير الديمقراطية الغوص فيها. وتبتعد عنها الدولة وسلطاتها السياسية والإعلامية خشية أن تنفجر واحدة منها في وجهها.
لا أعذر، ولكني أتفهم. ففي كل حوار شاركت فيه ارتفع صوت ينعى الطبقة الوسطى. هذه الطبقة التي تحملت، أحياناً منفردة، مسؤولية إطلاق الديمقراطية في مجتمعاتها، وتوفير الضمانات لها لتستمر، وإقامة المؤسسات العصرية وتشكيل النخب اللازمة للحكم والإدارة. هذه الطبقة انكسرت، أو أصيبت مرتين على الأقل خلال السنوات الأخيرة، كرد فعل لتداعيات الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي في عام 2008. وسمعت اقتصادياً كبيراً يؤكد أن هذه الأزمة كانت في ضخامة أزمة 1929 التي تسببت بالكساد العظيم. أكبر خسائرها، حسب رأيه، فقدان الطبقة الوسطى ثقتها بنظامين تبادلت معهما الاعتماد، هما الرأسمالية، والديمقراطية.
لا نستطيع أن ننكر حقيقة وضع لا يتكرر كثيراً. تصادف أن شهدت السنوات الأخيرة قفزات في التقدم التكنولوجي دفعت دولاً عدة في الغرب، كما في الشرق، إلى إعادة النظر في هياكل اقتصاداتهم، وأولوياتها. استدعى هذا الجهد البحث عن أساليب في التغيير وإعادة البناء أسرع، لتكتشف أن الأساليب الديمقراطية بطيئة، ولن تحقق الإنجاز المطلوب. قرأت لكاتب يبرر عداء دونالد ترامب للديمقراطية، أو استهانته بها، برغبته العارمة لتغيير علاقات بلاده بدول حليفة، ودول منافسة، على حد سواء، بل وتغيير كثير من سياسات سلفه في البيت الأبيض، باراك أوباما.
أجيال بعد أجيال عاشت منبهرة بالنموذج الديمقراطي الغربي. ودرسنا بالاستمتاع الممكن في مدارسنا الثانوية تجارب الغرب في الديمقراطية. تعلمنا في الحركة الوطنية كره الغرب، وتعلمنا في المدرسة الإعجاب بديمقراطيته. ونشأنا على حلم الدولة الوطنية المستقلة ومؤسساتها المنقولة عن تجربة وستمنستر. فشل كل من حاول منا، في أمريكا الجنوبية وإفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، نقل التجربة حرفياً. حتى الهند لم تكن لتفلح فيها التجربة الديمقراطية الغربية لولا أن ظروفاً محلية حالت دون قيام نظام آخر غير الديمقراطية. فشلنا، وتوقف الكثيرون عن المحاولة عندما اكتشفوا أن الديمقراطية في الغرب لا تصلح لهم، ثم عرفوا أنها مأزومة في الغرب، وعاجزة عن تحقيق الاستقرار السياسي وربما أيضاً التنمية اللازمة.
ونعلم علم اليقين أن في تاريخنا في العالم النامي ما يثبت أن دولاً كثيرة لم تأخذ بالنظام الديمقراطي إلا استجابة لانتداب، أو وصاية أممية، أو ضغوط من جانب حلف غربي، أو آخر.
الأسباب كثيرة وراء انحسار مكانة الديمقراطية الغربية في عالم اليوم. الأسباب كثيرة، والحوار مستمر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"