الخامس من حزيران المطرود من الذاكرة

04:45 صباحا
قراءة 4 دقائق
يبلغ الوضع العربي بما فيه الفلسطيني درجة من السوء لا يعود معه يثير المشاعر والاهتمام بحدث تاريخي مثل هزيمة حزيران/ يونيو 1967 التي خسرنا فيها أرضاً عربية عزيزة . لقد مضت 47 عاماً على هذا الحدث الذي لم يعد أحد، من الساسة خصوصاً، يتوقف عنده، ربما لأنه قد تقادم العهد على المناسبة ولم تعد صالحة ل"الاحتفال" بها، فيما الأوروبيون والأمريكيون والروس يحتفون هذه الأيام بالذكرى السبعين لإنزال نورماندي في شمال فرنسا، وهو الحدث الذي مهد لانتصار الحلفاء بعد عام من ذلك التاريخ على النازية . العرب الذين يقال عنهم إنهم لا ينسون الماضي وإنهم "يجترّونه"، ها هم يتجاهلون هذا الحدث الذي ما زال متواصلاً، وداء التجاهل يتسع عاماً بعد عام، وليس من تفسير لذلك سوى لكونهم يعزفون عن مواجهة أنفسهم بالوقائع والحقائق متى كانت هذه قاسية ومريرة . إنه حال من يهرب من نفسه ومن واقعه .
ليس المقصود هنا التأسف على عدم قيام مهرجانات خطابية توصف بأنها جماهيرية، أو غياب احتفالات يتنافس فيها شعراء منبريون بقصائد عصماء تُنكر الهزيمة وتُلوّح بنصرٍ يختبىء في ثنايا الغيب، أو افتقاد بيانات طنّانة رنانة تُصدرها أحزاب وتنظيمات تنسب الوطنية والتقدمية ل "نفسها" من دون غيرها، كما كان يجري على قدم وساق في غابر الأيام في غير عاصمة وحاضرة عربية . المقصود خلاف ذلك هو غياب الوقوف الموضوعي المتبصر أمام هذا الحدث المتوالي فصولاً بمناسبة ذكرى وقوعه، والتعريف بشواهد التغيّرات ووجهاتها التي وقعت منذ ذلك التاريخ، ومحاولة الإجابة عن سؤال كبير فحواه: هل تقدم العرب والفلسطينيون على طريق محو الهزيمة واستعادة الأراضي والحقوق المسلوبة، أم أن مفاعيل الهزيمة وحلقاتها ما انفكت تتوالى وتفعل فعلها، مع ما يتصل بذلك من عقد مقارنات واجبة بين واقعنا، وواقع عدوّنا سالب الأرض ومغتصب الحقوق؟
في القناعة أن هذا التجاهل الذي يمتد إلى المجتمعات، يجد جذره في أمور عدة منها التغير الذي طرأ على الأجندات السياسية والفكرية في عالمنا العربي، وخاصة في دول المشرق ومجتمعاتها، الذي لم تعد فيه مواجهة الكيان الصهيوني تحتل الأولوية أو حتى موقعاً متقدماً في الاهتمامات الفعلية، فضلاً عن الرؤى التي يذهب أصحابها إلى أنه ما دام قد تم عقد اتفاقيات سلام من قبل أطراف عربية، فإن منحى التطورات يؤشر على عقد المزيد من هذه الاتفاقيات مستقبلاً، وأننا على الجُملة في مرحلة سلام لا في حقبة مواجهة، برغم أي ملاحظات على الحالة السلمية ! . علماً بأن من وقعّوا الاتفاقيات في مصر والأردن لطالما شددّوا على أن السلام يظل ناقصاً ما لم تُستعَد كامل الأراضي والحقوق العربية، وتجد القضية الفلسطينية حلاً عادلاً وفق قرارات الشرعية الدولية . والحال أن هذا لم يتحقق، والعدو ما زال يُطبق على الأرض، ويشدّد على أن الهدف هو السلام . . وبالذات المفاوضات المفتوحة بغير شروط مسبقة، لا إعادة الأراضي، أو الاعتراف بحقوق وطنية وسياسية للفلسطينيين! .
ومن بين الأمور الأخرى التي ألقت بظلالها الثقيلة على الواقع العربي وأسهمت في تغير الأولويات اندلاع حروب وصراعات دموية داخل الكيان العربي، منها الحرب الأهلية في الأردن 1970 والحرب الأهلية/ الإقليمية في لبنان 1975 - ،1989 ومن بينها الحرب العراقية الإيرانية الطويلة على امتداد ثمانينات القرن الماضي، ثم حرب اجتياح الكويت من طرف النظام العراقي السابق وما تلاها من حرب عاصفة الصحراء الدولية/ العربية التي تم فيها تحرير الكويت، إلى الحملة العسكرية الأمريكية/ الغربية على العراق في العام 2003 التي انتهت باحتلاله وبإسقاط النظام، وما أعقب ذلك من أعمال مقاومة اختلطت بصراعات طائفية ونزاع أهلي في هذا البلد مما نشهده حتى أيامنا هذه فصولاً متتالية منه .
جملة هذه الحروب والصراعات علاوة على ما أورثته من خسائر هائلة في الأرواح وأضرار فادحة في الثروات، فإنها أثقلت العقل العربي والوجدان العام، وأشاعت بلبلة عميقة، وأثارت تشككات حول اتجاه البوصلة الحقيقية، هذا رغم أن العدو في الفترة نفسها لم يكف عن ارتكاب أعمال العدوان وشن الحروب كما في الحرب على لبنان عام 1978 ثم العام ،1982 ثم تكرار العدوان على هذا البلد في العام 2006 وتلته حرب صهيونية على قطاع غزة 2007 - 2008 . لقد اختلطت للأسف الشديد صورة العدو القومي والتاريخي، بالمحاذير الشديدة من الجار والشقيق وحتى من أبناء الأوطان أنفسهم كما حدث في النزاعات الأهلية في لبنان والعراق، وخاصة مع انفتاح الشهية على توجيه النيران في كل اتجاه ما عدا الطرف المحتل للأرض .
أما السنوات الأخيرة التي شهدت موجة "الربيع العربي"، في مشرق العالم ومغربه فما زالت حلقاتها تتوالى والأعين تتجه إلى بلدان مثل اليمن وليبيا وسوريا . . وحسب المرء أن يقوم بتقدير مدى ضراوة المواجهات الدامية على الأرض السورية وحجم النيران التي أطلقت، والذخيرة التي استهلكت في هذا البلد المحتل جزءاً من أرضه على مبعدة أقل من 50 كيلومتراً من العاصمة، عدا الأرواح التي أزهقت والتي لا تُقدّر بثمن، كي يدرك أين تتجه البوصلة الفعلية، ولماذا يغدو حدثٌ تاريخي ومفصلي مثل الخامس من حزيران نسياً منسياً . .

محمود الريماوي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"