فرصة للخروج من الانسداد السياسي

03:40 صباحا
قراءة 4 دقائق

رغم انحسار الاحتجاجات في مناطق بعينها، ورغم ما تبدو عليه هذه المظاهر من فئوية، إلا أن اتساع نظاقها وطابعها السلمي وحملها مطالب وطنية عامة، جعلت الهبة التي يشهدها العراق منذ نحو أسبوعين أقرب ما تكون إلى حلقة جديدة من حلقات الربيع العربي .

انطلقت شرارة الاحتجاجات على خلفية استهداف وزير المالية وفريق حمايته . الوزير رافع العيساوي عضو قيادي في القائمة العراقية وهي القائمة التي فازت في آخر انتخابات برلمانية، ورفض رئيس الوزراء نوري المالكي حينها وما زال التسليم بنتائجها، والاستهداف وإن رأى جمهور عريض أنه طائفي بعد استهداف نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، إلا أن سمته السياسية غير خافية . فالائتلاف الحاكم باسم دولة القانون يفرط في ممارسة صلاحيات الحكم، ابتداء من إفراط رئيس الوزراء في تقلد مناصب وزارة الداخلية والدفاع والمخابرات والقوات المسلحة مجتمعة في يده علاوة على رئاسة الوزراء، ومروراً بفرديته الطاغية وتغييبه المؤسسات وبالذات رئاسة الجمهورية، وليس انتهاء باستشراء الفساد، والإخفاق في التعامل مع مكونات العراق كما هو الحال في التعامل مع أكراد العراق وتركمانه ومسيحييه . ناهيك عن اضطراب العلاقات مع دول الجوار .

لقد نجح الحكم في إفراغ العملية السياسية من محتواها، باعتبارها آلية للتقدم على طريق المشاركة والتوافق الوطني وبناء دولة القانون والتداول السلمي للسلطة ورفع شأن المواطنة، وجرى استغلال قوانين مكافحة الإرهاب والمساءلة والعدالة على أوسع نطاق لملاحقة الأشخاص والجماعات، وزجهم في السجون من دون توجيه تُهم محددة ومن دون تقديمهم للمحاكمة . وقد اتسع نطاق القسوة ليشمل اعتقال آلاف من الإناث مع ما لذلك من بُعد رمزي في مجتمع محافظ، ولذلك كان على رأس مطالب المحتجين الإفراج عنهن، ولم تجد حكومة المالكي مفراً من بدء الإفراج لامتصاص النقمة الشعبية الواسعة .

يصعب القول إنها مطالب فئوية مع خروج مئات الآلاف في احتجاجات سلمية شملت محافظات عدة في الوسط والشمال الموصل كركوك ولم تستثن مناطق الجنوب . وباستثناء ائتلاف المالكي وقوى محدودة متحالفة معه، فقد لقيت الاحتجاجات الأهلية صدى واسعاً في الشارع السياسي، ابتداء من مقتدى الصدر مروراً بقائمة العراقية ورئاسة مجلس النواب، وليس انتهاء بالحزب الشيوعي العراقي . ومع هذا الضغط الشعبي بوجهته الوطنية، عمد الحكم للانحناء لبعض المطالب وتشكيل لجنة حكماء، مع اقتران ذلك بإطلاق تهديدات صريحة ضد المحتجين، مصحوبة بتصريحات من أبرزها وأغربها تحذير المالكي من تسييس المطالب . علماً أنها مطالب سياسية في الصميم تتعلق بالأداء السياسي، ومن الطبيعي أن تثير أصداء لدى القوى السياسية المختلفة، وأن تحرّك الركود وتكسر الجمود الذي يسعى الحكم لإدامته . ومن الواضح أن هناك خشية لدى الائتلاف الضيق الحاكم من تفاعلات هذه الاحتجاجات، واتخاذها أكثر فأكثر وجهة وطنية عامة تجتذب إلى صفوفها فئات اجتماعية جديدة .

ومن الملاحظ في هذه الأثناء أن الحكم قد عمد إلى التركيز على ما سمَّاه تحركات طائفية والتحذير من فتن طائفية . علماً بأن هذا الحكم لم يفعل شيئاً من أجل التوافق الوطني، بل كرّس حالة الاستقطاب الطائفي . فحين لا تقوم دولة بواجباتها في إرساء العدل والقانون، وتلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، فإنه لا يعود مستغرباً أن يلوذ المواطنون بأطرهم الاجتماعية التقليدية وانتماءاتهم الأولية، وفي وقت لا توطد فيه الدولة الثقافة الوطنية الجامعة العابرة للفوارق والمناطق .

في أزمات سياسية محتدمة أقل وطأة من هذه، تتم العودة إلى الشعب كي يقول كلمته ويختار ممثليه بإجراء انتخابات مبكرة، تنبثق عنها حكومة ذات تمثيل وطني فعلي، وهي دعوة دعا إليها أكثر من طرف سياسي، لكن هذه الدعوة لم تلق آذانا صاغية لدى الحكم وجرى الاستعاضة عنها بالدعوة إلى حوار وطني . علما بأن البلاد شهدت ما لا يحصى سابقاً من حلقات الحوار من دون نتائج تذكر، إذ ترك الحكم للآخرين أن يقولوا ما يريدون ومنح نفسه حق أن يفعل ما يشاء، بينما توفر الانتخابات عبر الحملات الانتخابية وعرض البرامج والرؤى، فرصة لحوار جدي يخرج إذا ما توفر شرط النزاهة والحيادية بنتائج ملموسة، بدلاً من استمرار الحديث عن عملية سياسية عقيمة تكاد تكون غائبة في ظل سياسة الاستئثار والانفراد .

في هذه الغضون فإن أفضل السياسيين العراقيين هو من يتمسك بخطاب وطني غير طائفي، ومن ينطلق من المشتركات ويبني عليها، فالوطنية النزيهة الرامية لإحلال العدالة هي التي تنصف سائر الفئات والطوائف، وهي التي تعيد التماسك للنسيج الاجتماعي، وتقطع دابر الإرهاب، وتضع حدا لوجود الميليشيات الظاهر منها والخفي، وهي التي تفتح الطريق لمصالحة وطنية واسعة مع احترام التعددية والتنوع والتنافس السلمي .

إن أمام الحكم في هذه الظروف ومع شغور منصب الرئاسة، فرصة ذهبية لإنقاذ البلاد بالتجاوب مع المطالب المحقة للمحتجين، والتحضير لانتخابات برلمانية ( لن تكون الانتخابات المحلية المزمعة بديلا عنها)، من أجل تصويب المسار وإعادة الأمل إلى نفوس العراقيين، إذ يكفي ما تم تبديده من وقت عبر المماطلات، ومن أموال نتيجة تفشي الفساد، ومن أرواح ثمينة حصدها الإرهاب والفتن العمياء .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"