موسم الهجرة إلى الشمال

05:08 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي

عندما اتفق الأوروبيون على الاتحاد وأزالوا الحدود بين دولهم فإنهم عملياً أقاموا مكانها حدوداً واحدة مع العالم الخارجي. وقتها حذر مثقفون منهم من أن تضحى أوروبا قلعة محاطة بأسوار عالية أو جزيرة ديمقراطية مزدهرة في محيط واسع من الفقر والتخلف والاستبداد، فالأسوار لن تحميها من جحافل الفقراء المهاجرين إليها، بدليل فشل الولايات المتحدة في وقف الهجرة غير الشرعية إليها من الحدود المكسيكية رغم الجدار الذي بنته هناك.
هذه الهواجس وغيرها دفعت الاتحاد الأوروبي إلى التوقيع على اتفاقات برشلونة في نوفمبر/ تشرين الثاني ١٩٩٥ قبل تبني سياسة الجوار والتوقيع على اتفاقيات اقتصادية مع جيرانه المتوسطيين. لكن في غياب النتائج المرجوة من هذه الاتفاقات وبعد الاضطرابات التي عصفت بالمنطقة العربية، منذ العام ٢٠١١، وجدت أوروبا نفسها أمام التحدي الذي لطالما كانت تخشاه،وهو تدفق المهاجرين غير الشرعيين إليها. ولهذه الظاهرة أبعاد أمنية وسياسية وديموغرافية واقتصادية.

وتزداد هذه الظاهرة تفاقماً مع استمرار الاضطرابات في حوض المتوسط. ففي العام الماضي وصل ٢٨٣ ألف مهاجر غير شرعي إلى أوروبا براً عبر اليونان وبحراً عبر البحر المتوسط، في مقابل مئة ألف العام ٢٠١٣، والمتوقع أن يحطم العام الجاري الرقم القياسي. وقد هدد تنظيم «داعش» الإرهابي بإرسال مليون مهاجر إلى أوروبا في كل عام، وتهديداته يأخذها الأوروبيون على محمل الجد. وإذا كان المحظوظون من «لاجئي القوارب» قد تمكنوا من الوصول إلى «الأرض الموعودة» إلا أنّ رفاقاً لهم قضوا بالمئات غرقاً وابتلعتهم مياه البحر الأبيض المتوسط. إنهم«ضحايا قوارب الموت» كما باتوا يسمونهم، وهو التعبير الأقسى عن البؤس الإنساني والهوة التي تفصل ما بين عالمي الشمال والجنوب.
وتكشف السلطات الأوروبية عن عجز فاضح في التعامل مع هذه الظاهرة وفي إيجاد حلول لمشكلة تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، وهي مشكلة مزدوجة. فمن ناحية كيفية وقف الهجرة غير الشرعية ومن ناحية أخرى كيفية التعامل مع المهاجرين لدى وصولهم إلى الأراضي الأوروبية؟ هذا السيل من المهاجرين المدفوع بالصراعات الحالية في الشرق الأوسط وإفريقيا الشمالية يقسم الطبقة السياسية الأوروبية حول إشكالية التعامل معه.
بروكسل طلبت من كل دولة في الاتحاد الأوروبي تحمّل أعباء استقبال أربعين ألفاً من المرشحين الجدد للّجوء السياسي،في انتظار اعتماد توزيع قائم على عدد السكان والناتج الداخلي الإجمالي ونسبة البطالة لكل دولة أوروبية. لكن وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف يطالب باحتساب «الجهود التي سبق وبذلت» مذكراً بأن فرنسا إلى جانب أربع دول أخرى هي ألمانيا وهنغاريا وإيطاليا والسويد، استقبلت ٧٥٪ من طالبي اللجوء. أما رئيسا الجمهورية هولاند والحكومة فالس فرفضا مبدأ الحصص (الكوتا) معتبرين أنه «خطأ أخلاقي ومعنوي». وتتعرض السلطات الفرنسية إلى سيل من الانتقادات من سياسيين ومنظمات حقوق الإنسان في كل مرة تقوم بترحيل مهاجرين غير شرعيين. وفي الشهر الماضي لدى ترحيل ثمانين منهم تدخل ناشطون حقوقيون لمنع الترحيل وتصدى لهم رجال الأمن، الأمر الذي تسبب بانتقادات للحكومة بأنها تتعامل مع الفقراء بطريقة تتنافى مع القيم والمبادئ الجمهورية.أكثر من ذلك وجهت وزيرة الإسكان السابقة سيسيليا دوفلو رسالة إلى الرئيس هولاند عبر الصحف ختمتها بالقول إن «سياسة الهجرة الفرنسية هي واترلو أخلاقية ومعنوية».
هناك،في أوروبا، من يطالب برقابة مشددة على الحدود الأوروبية ولكن أيضاً على الحدود الوطنية لكل بلد، إلى درجة أن منهم من طالب بإعادة صياغة اتفاق شنغن حتى تتوقف حرية تنقل المهاجرين.وهذه الفكرة يؤيدها بعض اليمين الذي يطالب ب «شنغن٢» على أساس «أننا لم نعد قادرين على استقبال أناس لا نستطيع دمجهم»، كما قال الرئيس السابق ساركوزي، والذي يجامل ناخبي اليمين المتطرف استعداداً لانتخابات العام ٢٠١٧ الرئاسية. لكن اليمين المتطرف يطالب، على لسان زعيمته مارين لوبان،بالعودة إلى الحدود الوطنية والخروج النهائي من معاهدة شنغن.
هناك تيار يساري يعتبر أنه من الأجدر التصدي لمشكلة الهجرة من جذورها عبر مساعدة اللاجئين على البقاء في بلدانهم من خلال دعم برامج تنمية هناك.
أما عن مشكلة اللاجئين الذين أصبحوا في أوروبا، فهناك من يطالب بالتمييز بين أولئك المعنيين منهم باللجوء السياسي لأنهم مهددون في بلدانهم، وأولئك الذين هاجروا بحثاً عن العمل والذين ينبغي ترحيلهم. ويطالب اليمين المتطرف بحرمان المهاجرين غير الشرعيين وطلاب اللجوء من المساعدات الاجتماعية التي تقدمها الحكومة.
ويقبع حق اللجوء السياسي في صلب إصلاحات تدرسها البرلمانات الأوروبية بهدف تقليص الفترة الزمنية اللازمة لدراسة ملفات اللجوء وإصدار قرارات سريعة بشأنها (الشرعنة أو الترحيل). في الانتظار يعيش اللاجئون في ظروف صعبة داخل مخيمات حيث تتكرر أعمال العنف بينهم.
والحقيقة أن الواقع الديمغرافي الأوروبي يشي بأن المشكلة تقبع في مكان آخر. فمن المعروف أن أوروبا تعاني تآكلاً ديموغرافياً حيث إن معدل النمو السكاني ٠،٤ ٪ وهو الأدنى في العالم، لا يكفي للمحافظة على العدد الحالي للسكان، الأمر الذي يدفع بعض الدول الأوروبية إلى تشجيع الهجرة إليها شريطة أن تكون انتقائية. هنا المشكلة، إنها تكمن في هذه الانتقائية. فالحاجة إلى مهاجرين أمر معروف ومؤكد لكن الأوروبيين لا يريدون «نوعاً» محدداً من هؤلاء، وهو النوع الذي «يجتاحهم» في هذه الأيام.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"