المخاض مستمر بوتيرة أهدأ وأعمق

02:37 صباحا
قراءة 4 دقائق

المخاض الذي شهده الربيع العربي في غير بلد خلال العام ،2012 مرشح للاستمرار في العام المقبل الذي يهلّ غداً (الثلاثاء) كما تدل الشواهد على ذلك . لقد ثارت شعوب عربية ضد الطغيان الداخلي والفساد، من دون أن تطرح في حينه بديلاً محدداً للأنظمة موضع النقمة، باستثناء الحديث عن مبادىء العدل والمساواة ومكافحة البطالة والفقر وإشاعة الديمقراطية، وهي مبادئ تحتاج إلى أوعية وأطر مناسبة لتطبيقها في ظروف مخصوصة تتعلق بتلك البلدان والمجتمعات، وإلا تبقى أمنيات في الهواء .

المخاض لن يتوقّف وسوف يستمر بأشكال مختلفة، وهو ما تنبئ به الأوضاع في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، دون أن يقتصر الأمر بالطبع على هذه الأقطار . دواعي الاستمرار في البلدان المذكورة أن الشعوب تتوق إلى أن تلمس في حياتها اليومية ثمرات التغيير، وأن تطمئن إلى حاضرها ومستقبلها، وهو ما لم يحدث بعد . وفي دول أخرى فإن المشاركة السياسية باتت حقاً يرقى إلى مرتبة البديهيات ومن قبيل الحد الأدنى من الحقوق . ولعله في هذه النقطة بالذات يتلاقى المتحمسون للربيع العربي، مع من أبدوا التوجّس من هذه الموجة لأسباب شتى . ففي المحصلة فإن السعي إلى بناء الدولة الحديثة هو ما يجمع المؤمنين بالتغيير والذين يتطلعون إلى استدراك ما فات دولنا وشعوبنا من عوامل النهوض .

والدولة الحديثة هي التي تقوم على سيادة القانون وتطويره، وفصل السلطات، وتضمن الحقوق الأساسية لمواطنيها، وتسهر على إرساء التنمية الشاملة، وتستلهم الدروس والخبرات من تجارب المجتمعات المتقدمة، وتكفل سيادة البلاد واستقلالها .

هذا التحدي العميق والاستراتيجي هو ما يلهم الشعوب رغم ما يكتنف المجتمعات من تيارات عقائدية وسياسية وثقافية متباينة . في واقع الأمر أن الاعتراف بالتنوع والتعدد، وضبط المنازعات بين مكونات المجتمع هو من سمات الدول الحديثة التي تُعلي من شأن سيادة القانون وعموميته على مواطنيها . وليست الشعوب العربية هي وحدها في عالمنا التي تتوافر على تنوع اجتماعي وفكري، غير أن مناط الأمر هو في جعل هذا التعدد عامل إثراء وغنى، والحؤول دون استغلاله لرفع حواجز بين الجمهور الكبير . في دول عديدة يسود استعمال أكثر من لغة واحدة، ويتوافر ما لا يحصى من أعراق ومذاهب وطوائف، من دون أن يشكل ذلك محذوراً بحد ذاته . فالدولة الحديثة تصهر الاختلافات تحت راية العدالة، والحق بالتعبير السلمي، وتجريم المساس بمعتقدات الآخرين .

وبعيداً من العالم الشاسع، فإن الربيع العربي يمثل بحق صحوة قومية، صحوة الشعوب التي نالت أغلبية شرائحها حظاً من التعليم ومن التمتع بخدمات وسائل الإعلام، وأدركت بالتجربة الحسية المثالب الجسيمة للأنظمة، ولأن الأمر كذلك، فإن محاولة اختطاف هذه الصحوة وتجييرها لطرف بعينه من دون سواه من مكونات المجتمع، سوف تمنى بالفشل . فمن ثقافة هذا الربيع، القطع مع الانقلابات، ومع الحزب الواحد الحاكم، ومع نمط الأنظمة الشمولية أياً كان لبوسها: قومياً أو دينياً أو يسارياً أو يمينياً . والشاهد على ذلك تنوع القوى الحية الشبابية التي قادت الموجة الأولى للربيع، وعدم اعتمادها خطاباً أيديولوجياً بعينه، والالتفاف الذي لقيته من شرائح عريضة مختلفة .

لنا في هذا المعرض أن نترقب محطات لاحقة وغير بعيدة من هذا المخاض في انتخابات تونس ومصر ،2013 بعد أن لاح أمام الجمهور شبح حزب واحد حاكم، وما سوف ترسو عليه تفاعلات الوضع في ليبيا واليمن، أما في سوريا فإن المحنة مرشحة للاستمرار، يا للأسف، أياً كان مآل الوضع في الشهور المقبلة، وذلك نتيجة تفشي ثقافة السطوة المطلقة طوال عقود التي انتقلت عدواها إلى بعض فصائل المعارضة المسلحة بما يشكل تحدياً للنخب الوطنية .

وغير بعيد من هذه البلدان، فإن الاحتجاجات السلمية مستمرة بوتائر مختلفة في بلدان أخرى في المشرق والمغرب العربي . احتجاجات تناهض الفساد والاستئثار والتبعية والمعاندة في الشروع بإصلاحات جدية واسعة . والهدف غير البعيد الذي يرتسم في الأفق، هو بناء دولة حديثة عادلة متطورة، ينعم الجميع فيها بثمرات التنمية الشاملة فيها، ويسوسهم حكم القانون ولا شيء سواه .

من المعلوم أن قوى اجتماعية مستفيدة من الأوضاع السائدة، وقوى أخرى محافظة فكرياً تناوئ الدولة العادلة العصرية بتعلات شتى، وهو ما ينبئ بدوام السجال والتفاعل، درءاً لخطر إعادة إنتاج استبداد جديد يرث الاستبداد السابق تحت مسميات ولافتات ثورية، وكما كان حال أغلبية الانقلابات في الماضي، أو اللجوء إلى إثارة نزاعات أهلية واسعة من أجل تخويف الناس من التغيير والقبول بالورثة الجدد للاستبداد القديم . وهكذا مقابل الصراع الرأسي مع الأنظمة المستبدة، سينشأ صراع أفقي داخل المجتمعات، وفي حالات أخرى صراع مركب بين هذا وذاك .

وفي نهاية المطاف فإن بلوغ الغايات البعيدة للربيع العربي، ومعه إرساء الاستقرار والتفتّح السياسي، لن يتأتى إلا برؤية نهضوية شاملة تتسع لجميع التيارات المؤمنة بالتداول السلمي وبإقامة دولة العدل والقانون، وبالإقرار أن الشعب المتعدد والمتنوع الأطياف هو مصدر السلطات، وواقع الحال يزكي الحاجة إلى ذلك، وهو ما يجعل من هذا الربيع صيرورة مستمرة، بالنظر إلى ضغط المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإلى الروح الحية التواقة إلى التغيير التي تسري في أوساط الأجيال الشابة (علماً أن تصنيف الفئة العمرية لشريحة الشباب ارتفع ليلامس سن الخمسين!) .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"