إدلب ونهايات العثمانية الجديدة

02:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد نور الدين

فشل المشروع التركي في المنطقة بعد قليل على بدء ما سمي ب»الربيع العربي». سياسة «صفر مشكلات» التي اتبعها حزب العدالة والتنمية بعد وصوله إلى السلطة كانت فرصة كبيرة لاستعادة تركيا علاقات طبيعية مع العالم العربي، على الأقل.
ذلك أن تاريخ علاقة تركيا بالدول العربية كان مملوءاً بالسلبيات، ومعاداة المصالح العربية. لا نقف فقط عند كون تركيا أول دولة مسلمة ولوقت طويل اعترفت ب»إسرائيل» عام 1949، بل نسجت معها أقوى العلاقات بعد ذلك، ولا سيما في فترة الحزب الديمقراطي في الخمسينات، بقيادة عدنان مندريس الذي أعطى «إسرائيل» والغرب، ما لم يعطه زعيم تركي آخر. بل يمكن الملاحظة أن الفترات التي كانت تشهد تعزيز العلاقات بين تركيا و»إسرائيل» هي تلك التي كان الحزب الحاكم في تركيا إما منفتحاً على الإسلاميين، وإما إسلامياً، من مندريس إلى طورغوت أوزال، إلى رجب طيب أردوغان الذي يكفي أنه أول زعيم تركي يدعو الرئيس «الإسرائيلي» شمعون بيريز لإلقاء كلمة أمام البرلمان التركي عام 2007.
من دون إطالة، فإن وصول «العدالة والتنمية» إلى السلطة خالف كل التوقعات، أو الآمال بأن تنفتح صفحة جديدة من العلاقات تطوي الحساسيات التركية- العربية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى، واستمرت عقوداً.
في ظل السنوات الأولى من حكم « العدالة والتنمية»، ومع الانفتاح الكبير على كل الدول العربية، كانت «تتسلل» إلى الرأي العام من حين لآخر مواقف من مسؤولين أتراك تدعو إلى «عثمانية جديدة»، انطلاقاً من الروابط المشتركة بين الأتراك والعرب خلال الفترة العثمانية. ووصل الأمر بوزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في بداية ديسمبر/ كانون الأول 2010 إلى الدعوة في حوار مع صحيفة «الواشنطن بوست» إلى إقامة كومنولث عثماني بزعامة تركيا في الأراضي العثمانية السابقة في البلقان والشرق الأوسط والقوقاز، على غرار الكومنولث الانجليزي الذي تقوده بريطانيا.
العثمانية الجديدة لم تكن مجرد أفكار ترد على البال من باب الترف الفكري، بل كانت مشروعاً استراتيجياً لحزب العدالة والتنمية، يدعو إلى إعلاء شأن النزعة القومية التركية والإسلامية. ومن هنا فهو ذهب أبعد في التاريخ لجهة اعتبار السلاجقة، ومنذ السلطان الب أرسلان وانتصاره على البيزنطيين في معركة ملازكرد عام 1071، مرجعية فكرية وسياسية وعسكرية إضافية للعثمانية الجديدة.
وبعد أكثر من ثمانين عاماً على خروجها من المنطقة العربية عادت تركيا إليها من باب الرغبة في الهيمنة من جديد. كأنها لم تتعلم من دروس المرحلة العثمانية، ولا مرحلة ما بعد انهيار الدولة، ولا من المتغيرات الإقليمية. حتى إذا لاحت بوادر «الربيع العربي» المشؤوم أشهر حزب العدالة والتنمية سكين الهيمنة، ومضى في تعاون مع قوى مختلفة، عقائدية ومسلحة، من أجل إسقاط الأنظمة العربية القائمة، وإقامة أنظمة جديدة تشكل أذرعاً لترجمة مشروع العثمانية الجديدة إلى أمر واقع للهيمنة الجديدة.
ولم تكن تلك «النجاحات» سوى الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه قادة حزب العدالة والتنمية الذي أيقظ العرب على خطورة هذا المشروع.
لقد سقطت العثمانية الجديدة بعدما انتفض على أدواتها الجميع، من مصر والخليج وتونس وليبيا، إلى سوريا والعراق. حتى إذا تراكمت أخطاء الحزب الحاكم في تركيا كانت النتيجة ليس صفر مشكلات، بل صفر أصدقاء، وصفر علاقات.
مع ذلك، هذا المشروع لا يعترف بالموت. وما دام ربّابنته أحياء فإن لعبتهم المفضلة في المناورة لن تتوقف. واليوم يمارس الأتراك لعبتهم الأخيرة في إدلب في انتظار الحصول على مكاسب من حفلتهم الأخيرة في الساحة السورية. والخطر الأكبر أن يتمكنوا من تحصيل بعض المكاسب في لحظة الانكسار الكامل لمشروعهم بعدما فشلوا في تحقيق أي مكسب في ذروة اندفاعته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"