حفل لتوديع الحلف الأطلسي أم لتجديده؟

03:25 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

كان حفلاً مهيباً.. انتهى وزراء الدفاع في دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) من اجتماعاتهم، وسط اهتمام إعلامي ضعيف، واستقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، السكرتير العام للحلف، محفوفاً بفضول إعلامي محسوس، واشتركت الغالبية العظمى من المُشرعين الأمريكيين في حفل لتكريم الحلف؛ بمناسبة بلوغه السبعين لم يشهد الكابيتول هيل مثيلاً له إلا في حالات نادرة. كان واضحاً أن هناك من تعمد أن يكون الحفل مبهراً، والاستقبال دافئاً، والحضور متنوعاً. ترامب خرج عن عادته؛ ليعلن دعم أمريكا للحلف، وألقى السكرتير العام للحلف بخطاب صيغ بإتقان؛ ليؤكد بدوره حرص الحلف على مصالح أمريكا، واستعداده لتجديد قدراته، وتوسيع مجالات عمله، والتزام أعضائه بزيادة مساهماتهم المادية؛ تخفيفاً للعبء الواقع على الولايات المتحدة.
قامت الأطراف بأداء الدور المطلوب من كل طرف على أحسن وجه. كانت الرسالة الموجهة من الأمانة العامة للحلف، ومن القيادة العسكرية الأمريكية أن كل شيء على ما يرام؛ بل وإلى الأحسن في إدارة مهام الحلف الأطلسي، والتزام الأعضاء به. فالشكوك كانت كثيرة، والدوافع وراء الشكوك وفيرة، ولا شك أن الأجواء المحيطة بالحلف أثرت في صنع انطباعات المتابعين والمراقبين. أنا شخصياً خرجت من مشاهدة ومتابعة لقاءات واشنطن وحفلها المهيب، وقد زدت قناعة بأن مؤسسات في واشنطن وسكرتارية الحلف عملت الكثير؛ للتعمية على جوانب في الحلف كانت غامضة، وبقيت بالفعل غامضة؛ بل أظن أن ما اكتست به الاحتفالات والاجتماعات من حماسة مصطنعة أكدت شكوكاً، وربما أثارت مخاوف جديدة.
عرض السكرتير العام للحلف على المستمعين من المتشككين الأمريكيين بعضاً من إنجازات حققها الحلف في السنوات الأخيرة. قال: إن لاتفيا، وهي من أقرب المواقع الأوروبية إلى قلب روسيا، تستعد الآن لاستقبال وحدة عسكرية تقيم دائماً على أراضيها؛ لحماية كل دول البلطيق من أي اعتداء مصدره روسيا، «خصم أوروبا اللدود والدائم». السكرتير العام يعد أنه بهذه الخطوة وحدها تأكد أن الحلف ما زال يتقدم، والدليل الآخر هو أن دولاً في الشرق الأوسط تطالب بالسماح لها أن تنضم للحلف، وتسعى دائماً لإقناع المسؤولين فيه بوضع قوات عسكرية على أراضيها.
في زحمة الاحتفال بالعيد السبعين للحلف، انخفضت كثيراً إشارات المسؤولين الأوروبيين إلى مشكلات الحلف، والعقبات التي تقف في طريقه. تؤكد الوقائع وتطورات الأمور في أوروبا والشرق الأوسط وصعود الصين وغيرها أن العقبات على طريق حلف الناتو صارت أكثر، وليست أقل؛ بل إن بعضها يمس قواعد ومبادئ تتصل بوجود الحلف من أساسه؛ مثال على ذلك مسألة عودة المشاعر والانتماءات القومية إلى ما يقترب جداً من سابق عهدها في القرن التاسع عشر. نعرف أن الحلف ما كان ليقوم لو أن الدول الأوروبية الخارجة لتوها من حرب عالمية طاحنة تمسكت بأولوياتها القومية، ورفضت التنازل عن شيء أو جزء من سيادتها القومية؛ لتصير عضواً فاعلاً في الحلف. هناك دول تنازلت عن حقها في ترتيب أولوياتها الأمنية لصالح اختيار روسيا عدواً أوحد للحلف، وسبباً لوجوده، ومبرراً أعظم لعضويتها فيه. أكثر هذه الدول تعيش هذه الأيام في ظل تطورات فرضت عليها تبديل أولوياتها الدفاعية. روسيا بالتأكيد ليست العدو الأول بقدر ما هي الهجرة من إفريقيا ودول الشرق الأوسط وأفغانستان. هذا الاختلاف في ترتيب الأولويات القومية مضاف إليه صعود التطرف القومي؛ أعاد إلى الذاكرة تاريخ اللحظات السوداء في التاريخ السياسي لأوروبا.
أعضاء الناتو اختلفوا حول ترتيب أولوياتهم الأمنية، وهو الأمر المنافي لأبسط قواعد التحالفات. هم أيضاً يختلفون حول انتماءاتهم الأيديولوجية؛ رغم أن الانتماء الأيديولوجي لقيم الحلف كان شرطاً وقيداً والتزاماً؛ عندما نشأ في إبريل/نيسان من عام 1949.. كثيرون أعرفهم لا يستبعدون أن يجدوا ذات يوم عدداً من الدول تشكل فيما بينها حلفاً عسكرياً وسياسياً يعتمد أيديولوجية ظاهرة الرجال الأقوياء، ويحكم استناداً إليها، واقتناعاً أو إيماناً بها. أعرف أن بين المفكرين وعلماء السياسة من يحذر من التهديد الذي يمكن أن تمثله هذه الظاهرة، إن هي تحولت فعلاً فصارت أيديولوجية متكاملة ثم تجسدت حلفاً عسكرياً مناهضاً للديمقراطية.
للجنرال إيسماي أول سكرتير عام لحلف شمال الأطلسي عبارة تلخص «المسألة الألمانية» في التاريخ الحديث. يقول ما معناه أن الناتو «أنشئ لضمان بقاء روسيا خارج أوروبا، والاحتفاظ بالوجود الأمريكي داخل أوروبا، والتأكد من أن تظل ألمانيا خفيضة الرأس».
قارن هذا الرأي برأي سيكورسكي وزير خارجية بولندا الأسبق، الذي قال ما معناه، «لا تخيفني ألمانيا الناشطة إنما أخاف من ألمانيا الساكنة»، ربما كان يقصد أن يقول إنه يخاف من ألمانيا خفيضة الرأس.
لا أحد في أوروبا أو خارجها يستطيع أن ينكر دور ألمانيا في السياسة الدولية، خاصة في الساحة الأوروبية منذ توحدت على يد بسمارك في عام 1871. نشبت حرب بسببها في 1914، وحرب أخرى في 1939. قام سلام أوروبي واستمر منذ تقرر تقسيم ألمانيا. نذكر جيداً كيف قوبل في كل من فرنسا وبريطانيا قرار توحيد ألمانيا مع انتهاء الحرب الباردة.
مرة أخرى ومع استمرار وجود دونالد ترامب على رأس الولايات المتحدة، وفي ظل تفاقم عواقب أزمة البريكست، وأمام تصاعد الأضرار الناتجة عن تصاعد النعرات القومية المتشددة في دول جنوب ووسط أوروبا، ونتيجة حتمية للتغير في التركيبة الحزبية الألمانية، وعلى ضوء تدهور البيئة الاجتماعية في فرنسا واطراد عمليات التخريب السيبري من جانب روسيا وقد صارت متبادلة، مرة أخرى سوف تفرض الأحداث نفسها على ألمانيا فتعود لتهتم بمسائل الجغرافيا السياسية بعد سنوات من التركيز على قضايا الجغرافيا الاقتصادية.. تعود ألمانيا قوة عسكرية بطموحات لها ما يبررها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"