السياسة العامة..وفراشة لورينز

21:20 مساء
قراءة 3 دقائق

د. عبد العظيم حنفي *

بعد أن فقدت دراسات العولمة مصداقيتها على نطاق واسع في مطلع القرن 21، صارت تبحث الآن في الظواهر المرتبطة بها بشكل مختلف. فتم استبدال منطق الحتمية بالدراسات النقدية التي تقيم العمليات والنزعات المتضادة بدراسة مجموعة من العوامل وأفسحت الحتمية الاقتصادية المجال للتقييم الدقيق لمجموعة من القضايا، منها مراقبة السياسة العامة في سياق عالمي. إن السياسة العامة ظاهرة عالمية معقدة. هذا يعني أنها تتضمن سلوكيات معقدة وعشوائية لا يمكن كشفها وفهمها تماماً، من خلال الملاحظة الخطية التقليدية التي تعزز مفاهيم مثل السيطرة والسببية المحلية، والأدوات وتكسير الكل إلى أجزاء أصغر.

نحن نعيش في عالمين: خطي وغير خطي في وقت واحد. ويتميز المجال الخطي لدينا بالقدرة على التنبؤ وانخفاض درجة التفاعل بين مكوناته. 

وهذا يسمح لنا باستخدام الطرق الرياضية لعمل التوقعات. أحد الأخطاء التي نرتكبها عندما نكون في المجال الخطي، هو أن تكون لدينا الرغبة في السيطرة. ونحن نفعل ذلك في تفاعلاتنا الروتينية اليومية، أو في السياسات العامة والاقتصادية، وعلى الرغم من أن جميع المؤشرات تدل على العكس، والنتائج تثبت خطورة مثل هذا السلوك، فنحن نستمر في الحفاظ على هذه الصفة.

فبعد الأزمة المالية عام 2008 اعتقد كثيرون من الناس أن التنبؤ بانهيار الرهن العقاري كان يمكن أن يفيد، في حين كان لا يمكن أن يفيد؛ لأنه كان أحد أعراض الأزمة وليس السبب الكامن، كما أظهرت تجارب الحياة أنه لا يمكن التنبؤ بها. مهما قضينا من الوقت في ابتكار النماذج وأدوات التنبؤ، فلن نكون قادرين على تتبع الفرصة الصدفة. 

بسبب ذلك ترى مجموعة من الخبراء، أنه عندما نعيش في مجالنا المعقد، ونسمح للتعقيد بالمساعدة في التحليلات والملاحظات، يمكننا إنقاذ أنفسنا من السيطرة والتنبؤ، والخوف من العشوائية. ولذلك يتعين علينا أن نرحب بالاختلاف كمصدر للمعلومات. ويرون أن عالم السياسة العامة، مثل أي نظام حي آخر، ليس ثابتاً؛ بل يتغير باستمرار، وينتقل من خلال دورات من التوازن والتذبذب والفوضى والانهيار، والظهور والتوازن  الخلل  التوازن  والتذبذب، وهلم جرا. دورة الولادة وإعادة الولادة مستمرة من أجل أن تعيش السياسة العامة كنظام ديناميكي داخل ظروف متغيرة في بيئتها، مثل هذا التحول غير قابل للتراجع، ولا يمكن التنبؤ به وحازم ومترابط.

إن تأخير التطور النظامي للسياسة العامة من خلال الهندسة الصناعية سيخلق نتائج كارثية. هذا هو السبب في أن دراسة السياسة العامة من خلال نماذج معقدة مهمة من أجل السماح للمشاركين والمراقبين بدراسة التطور الطبيعي وديناميكيته الدورية، ومنع أي محاولة للهندسة الصناعية التي من شأنها أن تؤدي إلى الضرر أكثر من النفع. الأنظمة بما في ذلك السياسة العامة، لا تعيش بشكل مستقل في العالم. ليست هناك نقطة بداية أو نهاية في شبكة الإنترنت لنظام الارتباطات والشبكات المترابطة. التغيرات داخل هذه النظم لا يمكن التنبؤ بها. 

وبالتالي فهي غير مثمرة في محاولة لاستباق طبيعة وتوقيت هذه التغيرات أو التخطيط للمستقبل في التعامل معها. بدلاً من ذلك، هذه النظم في حالة مستمرة من التدفق، لا يمكن التنبؤ بها، ومترابطة، وتنطوي على السببية المتبادلة من خلال ردود الفعل السلبية والإيجابية التي تولّد تغيرات متعددة داخلية وخارجية، ضمن نمط من العلاقات الرابطة والمترابطة. كل محفز في البيئة يتفق مع التغيرات في الديناميكيات الداخلية للنظام، في حين تؤدي مثل هذه التغيرات إلى التأثير في البيئة داخل سلسلة من التفاعلات وردود الفعل، يمكن أن تختلف المحفزات في الحجم والضخامة. 

معظم المحفزات صغيرة في حجمها، إلا أن التغيرات الناتجة في الديناميكيات الداخلية للنظام، يمكن أن تكون كبيرة. ومن هنا يأتي سؤال لورينز الشهير: «هل خفقان أجنح ة فراشة في البرازيل يتسبب في موجة عدوان في ولاية تكساس؟». يعلمنا تأثير الفراشة لدى لورينز أن التغيرات الصغيرة داخل التكيف الأولي ستؤدي إلى تغيرات أكبر في المسار الأطول لتشكل النظام الديناميكي، وحيث إن العديد من القوى تتفاعل في تشكيل النظام، فإن رسم مساره على المدى الطويل غير مثمر؛ لإن مثل هذا المسار يتغير دائماً، ويرجع ذلك إلى التفاعل المستمر للقوى الداخلية والخارجية.

في السياسة العامة تتحقق صيغة لورينز. إذا كانت محاولة التنبؤ بالطقس بدقة لمدة خمسة أيام غير مثمرة، فإن محاولة التنبؤ بالتغيرات في ديناميكيات السياسة في ما وراء المستقبل المنظور هي أيضاً غير مثمرة، وهذا أيضاً حال ضرورة التخطيط الطويل الأجل، حيث ينتقل بنا التعقيد إلى الترقب ويعدنا للعيش في داخل الحركة. وكانت نتيجة هذا أن نقبل النتائج غير المتوقعة والاعتراف بالنتائج غير المؤكدة للنظام القطعي، وشمول أنماط المراقبة في الكشف عن عمليات التغير ضمن شبكة عالمية مترابطة. 

* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"