اليمين المتطرف يغزو البرلمان الأوروبي

04:34 صباحا
قراءة 4 دقائق
يعيش الاتحاد الأوروبي أزمة مستعصية مثلثة الأبعاد - اقتصادية ونفسية وهويتية . فمنذ خمس سنوات لا تزال نسبة النمو تدور حول الصفر في المئة في معظم الدول الأوروبية، والبطالة تضرب أرقاماً قياسية جديدة أمام عجز الحكومات عن إيجاد الحلول المناسبة وهي التي ما انفكت تعد الناخبين، في الحملات الانتخابية، باجتراع مثل هذه الحلول . وأبرز مثال على ذلك وعود الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي وصل رئيسه إلى الإليزيه في انتخابات العام 2012 ليسقط سقوطاً مدوياً في الانتخابات البلدية الشهر المنصرم . ولم ينفع استبدال رئيس الحكومة وبعض الوزراء كما إعلان رئيس الوزراء الجديد إيمانويل فالس تخفيض الضرائب على ذوي الدخل المحدود بقيمة مليار يورو سنوياً . فهذا المبلغ كبير بالنسبة لميزانية تعاني عجزاً هائلاً وضئيلاً لا يكفي لرفع مستوى الطبقة الكادحة، كما تبين بأن هذه المناورة فاشلة انتخابياً لأنها لم تكفِ لإنقاذ شعبية الحزب الاشتراكي الحاكم والتي انهارت تماماً في الانتخابات البرلمانية الأوروبية في 25 مايو/ أيار الماضي .
هناك أزمة ديمقراطية معطوفة على أزمة هوية لا يزال يفتقد إليها الاتحاد الذي تتحكم بسياساته مجموعة من الأوتوقراطيين القابعين في مكاتبهم في بروكسل . فبعد أن أضحى عدد أعضائه ثماني وعشرين دولة لا أحد يعرف هل سيستمر الاتحاد في التوسع وإلى أين ومتى يتوقف، وهل يحمل هوية واضحة تعبر عنه غير العلم الأزرق المرصع بنجوم تمثل الدول المنضوية فيه؟
والمعروف أن الأزمات بيئة ملائمة للشعبوية والتطرف . فليس من المفاجىء، والحال هذه، أن تنمو أحزاب في هنغاريا وهولندا والدنمارك وفرنسا وبريطانيا، على سبيل المثال لا الحصر، على خلفية شعاراتها المناوئة لأوروبا والمعبرة عن حقد وعنصرية وكراهية للمهاجرين لاسيما المسلمين منهم . لقد ارتفعت في الحملات الانتخابية في مثل هذه الدول المذكورة شعارات تدعو علناً إلى طرد المسلمين، فقط لأنهم مسلمون ومهاجرون .
لقد صدقت توقعات مؤسسات استطلاع الرأي التي حذرت من تقدم الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة في انتخابات برلمانية كان أكثر من ستين في المئة من الذين شاركوا فيها مدفوعين بهموم وقضايا أوروبية بحت .
وقد استقت الأحزاب اليمينية المتطرفة أصواتها من الطبقات الشعبية والشبابية التي كانت يسارية تاريخياً . فالجبهة الوطنية في فرنسا جمعت أصواتها من صفوف العمال والمستخدمين (34 في المئة) والعاطلين عن العمل(83 في المئة) . وبعد أن كان التصويت لمثل هذه الجبهة أمراً مخجلاً فإنه أضحى أمراً عادياً ممكناً بحسب استطلاع للرأي كشف أن أكثر من 54 في المئة من الفرنسيين لم يعودوا يشعرون بالخزي إزاء التصويت لمثل هذه الجبهة التي أضحت القوة السياسية الأولى في فرنسا كما توقعت زعيمتها مارين لوبان وأكدته نتائج الانتخابات الأوروبية، الأمر الذي يسمح لها بأن تطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة العام 2017 .
لقد بينت هذه الانتخابات بأن الأحزاب الأوروبية الكبرى، اليمينية منها واليسارية المؤيدة للاندماج الأوروبي وللتبادل الحر، تتطور في عكس اتجاه المزاج الشعبي الذي بات يشكك في جدوى التبادل الحر والاندماج مفضلاً الانطواء على النفس . وكان النقاش الانتخابي يتمحور حول الحلول المجدية للأزمة التي انقسمت حولها الأحزاب المتنافسة . فمنهم من أيد شعار "أوروبا الأوطان" الذي رفعته مارين لوبان والقاضي بالعودة إلى الأوطان لحل مشكلاتها الخاصة بعيداً عن الاتحاد الذي تسبب بهذه المشكلات، ومنهم من اقترح فرض حد أدنى واحد للأجور في كل دول الاتحاد للحؤول دون المنافسة غير المشروعة بينها، ومنهم من دعا إلى إعادة النظر بمعاهدة شينغن لجهة تعديلها أو إلغائها كي يتسنى للدول مراقبة حدودها والتصدي لسيل المهاجرين غير الشرعيين . . . الخ .
كل الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة حققت تقدماً ملحوظاً ولكن اللافت أن تنجح أحزاب صغيرة هامشية حديثة الولادة في الوصول إلى البرلمان . فمثلاً ألمانيا رغم صحتها الاقتصادية الجيدة لم تنج من هذه الظاهرة، كذلك بولونيا وهولندا وهنغاريا حيث وصلت أحزاب إلى البرلمان يقوم برنامجها المعلن على الدخول إلى البرلمان الأوروبي من أجل تفكيك الاتحاد من الداخل" .
لكن رغم هذه "الصدمة" و"الزلزال" بحسب تعابير مراقبين ومسؤولين أوروبيين فإن الأحزاب المعادية للاتحاد الأوروبي (وبالمناسبة للمسلمين والعرب أيضاً) استحوذت على مئة مقعد في البرلمان الأوروبي الجديد (من أصل 750 مقعداً)، وهو ما لا يكفي البتة لتدمير أو تفكيك البناء الأوروبي أو وقف العمل فيه، لكنه كاف لرفع الصوت المعادي للاتحاد ولدفع الأحزاب التقليدية إلى التغيير . وفي رأي جان تيشو مدير فريق كارنيغي الأوروبي فإن "ذلك لن يغير طريقة عمل الاتحاد" ولكن ستكون هناك نتائج "على المسارح السياسية الوطنية والطريقة التي يتصرف بها القادة الوطنيون في دول الاتحاد الأوروبي" . وعلى الأرجح أن يكون لذلك تأثير مباشر في كل المشهد السياسي والحزبي المقبل على امتداد القارة العجوز .

د . غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"