هل هي حرب باردة جديدة؟

04:52 صباحا
قراءة 4 دقائق
مع وصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين في العام 2000 وتصريحاته المتكررة عن إعادة روسيا إلى موقعها السابق في حظيرة الأمم بدأ المراقبون يتحدثون عن احتمالات عودة نوع من الحرب الباردة .
سياساته، الداخلية والخارجية، ذهبت في هذا الاتجاه،قبل أن يفاجىء الجميع في مؤتمر ميونيخ للأمن، في فبراير/شباط ،2007 فيوجه انتقادات لاذعة إلى "الذئب الأمريكي" ويهدده باستخدام العصا، ما دفع المراقبين إلى التوجس من عودة الحرب الباردة ولو بشكل مختلف، شكلاً ومضموناً، عما كانت عليه .
وعلى الرغم من كل أشكال التعاون بين موسكو وواشنطن على الساحة الدولية ومصالحهما المشتركة بل وحربهما على الارهاب بعد تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر ،2001 فإن كل أزمة دولية يختلفان حولها كانت تشكل مناسبة لعودة الحديث عن الحرب الباردة . وجاءت الحرب السورية المستمرة منذ سنوات ثلاث طوال لتقدم دليلاً جديداً للمراقبين على أن العالم يشهد حرباً باردة جديدة، بدليل أن ما يحدث في أوكرانيا هو، في جوانب كثيرة، رد غربي على دعم موسكو للنظام السوري ومظهر جديد من مظاهر هذه الحرب الباردة .
من المؤكد أن في الموقف الروسي من الأزمة الأوكرانية ما يدعم مثل هذه التحليلات .فدخول قوات روسية إلى شبه جزيرة القرم وإقرار الدوما قانوناً يسهّل ضمها إلى الفدرالية الروسية، بمجرد استفتاء شعبي، يخرق التزاماً اتخذته روسيا، في اتفاقية بودابست في 21/5/ ،1994 بهدف التعويض عن تخلي أوكرانيا عن السلاح النووي بعد أن كانت القوة النووية الثالثة في العالم غداة تفكك الاتحاد السوفييتي في العام 1991 . وقتها التزمت القوى الخمس الكبرى حيالها باحترام استقلالها وسيادتها وحدودها، وعدم استخدام الابتزاز الاقتصادي ضدها وعدم استخدام السلاح النووي او التهديد به ضدها، ودعوة مجلس الامن الدولي للانعقاد في حالة تعرض أمنها للخطر . وأعيد التأكيد على هذه الضمانات في معاهدة نيوستارت بين موسكو وواشنطن في العام 2009 .
وإذا كان صحيحاً أن الموقف الروسي من أوكرانيا اليوم يشبه إلى حد بعيد ما جرى في العام 2008 في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، إلا أن موسكو تذرعت وقتها بحماية مدنيين وعسكريين روس تعرضوا لاعتداءات من قبل القوات الجورجية،أما اليوم فلا وجود لمثل هذه الاعتداءات، بل إن السلطات الجديدة في كييف سمحت بالتظاهرات الشعبية المؤيدة لموسكو في سيباستوبول وغيرها من مدن القرم كما أن القوات الاوكرانية لم ترد على استفزازات الاسطول والعسكريين الروس . هذا التصعيد يخرق اتفاقية بودابست التي وقعها يلتسين ويشي بتغيير منهجي في الاستراتيجية الروسية نفسها، الأمر الذي يعطي دليلاً جديداً على أننا إزاء حرب باردة جديدة .
على الرغم من كل ذلك وغيره فللحرب الباردة شروط لا تزال غير متوفرة . فليس هناك من تنافس ايديولوجي على مستوى العالم بين قوتين أو قطبين أو أكثر .الرئيس بوتين، الذي يؤخذ عليه أسفه المعلن على اختفاء الاتحاد السوفييتي، أعلن مراراً عن قناعته باقتصاد السوق وانخراطه الكلي فيه . كما أنه ليس هناك من تنافس أمريكي-روسي على النفوذ في الساحة العالمية . موسكو أيدت القرارين 1970و1973 في ليبيا ولو أنها أخذت على حلف الاطلسي استغلاله لهما لإسقاط القذافي بالقوة بذريعة حماية السكان المدنيين . ومثل هذا التنافس غائب في معظم القارات في العالم، هو قائم بين الصين واليابان طوراً والصين وأمريكا تارة وهذه الأخيرة وأوروبا في بعض المناطق الخ . ومن الصعوبة بمكان القول إننا إزاء قوتين عظميين ، بل الأرجح أننا في عالم يقترب من التعددية القطبية أو من اللاقطبية، والفرق بين القدرات العسكرية الأمريكية والروسية هو أكبر مما كان عليه إبان الحرب الباردة رغم التراجع الأمريكي . أضف إلى ذلك أن كل الدول الكبرى منخرطة في شبكات تعاون من "منظمة الأمن والتعاون الاقتصادي" إلى "مجلس أوروبا" إلى "مجلس الناتو-أوروبا" والشراكة من أجل السلام وغيرها .
في إيران وسوريا تتفق موسكو وواشنطن على مكافحة الارهاب والانتشار النووي، والكيميائي أيضاً، لكنهما تختلفان على الاستراتيجية . روسيا تبحث عن مصالحها أكثر مما تبحث عن مقارعة الغرب . هذا الأخير سارع إلى تكثيف أوجه التعاون مع موسكو غداة الأزمة الجورجية،في العام ،2008 رغم الخطابات النارية . وقد وصل هذا التعاون إلى درجة تمنع دولاً مثل ألمانيا على سبيل المثال، التي تستورد أربعين في المئة من حاجتها من الغاز من روسيا، من الانضمام إلى حلف أوروبي ضد روسيا . هناك تباين أوروبي-أوروبي وأوروبي-أمريكي حيال التعامل مع الأزمة الأوكرانية، كما حيال الأزمة السورية . لا وجود للعبة صفرية بين حلفين كما كانت عليه الأمور في الحرب الباردة .
لقد دعا وزير الخارجية الروسي لافروف، في الثامن من مارس/آذار الجاري، إلى حوار عقلاني من الند إلى الند مع القوى الغربية بغية إيجاد وسيلة لمساعدة أوكرانيا، كلها، على الخروج من الأزمة . ما تريده روسيا هو الاعتراف لها بنفوذ في محيطها والتعامل معها كقوة أساسية في العالم . الأزمة السورية وفرت لها ذلك ومن خلال الأزمة الأوكرانية تريد أن تؤكد حقها في الدفاع عن الأقليات الروسية، وعدم تحول تغيير الأنظمة والإطاحة بالحكومات عملاً عادياً في الشؤون الدولية .
سياسات بوتين تجلب له دعم النخبة الروسية المتوجسة من توسع حلف الأطلسي شرقاً وتدخله في الجوار الروسي ونشره للدروع الواقية من الصواريخ وغير ذلك،وتزيد من شعبيته في مجتمع يفتخر بعراقة بلاده وعظمتها . لكن بوتين يدرك أن بلاده ليست قادرة على الانخراط في سباق تسلح ونزاع مع الغرب على النفوذ في العالم، وغير مؤهلة اقتصادياً وسياسياً للعب دورها القديم إذ لم تعد روسيا الستينات والسبعينات ولو أنه لا بأس من استغلال الضعف الأمريكي، والغربي عموماً، لاستعادة قدر من الهيبة والنفوذ أقله في الفناء الخلفي والمحيط المباشر .

د . غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"