عينك عينك

00:29 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد البريكي

في فضاء مفتوح لا تحده حدود، ولا تراقبه طائرات استطلاع، وفي مدن جميلة لكنها بلا أسوار أو حرس حدود أو دفاعات حديثة تصد جيوش المحتل الذي يحاول وضع يده بالمكر والخبث من أجل أن يؤسس لنفسه دولة على أنقاض دولة، فإن أمثال هؤلاء يستطيعون اختراق البعض وتضليلهم وإيهامهم أنهم من الأسماء التي ستفتح التاريخ، وسترسخ لبناء حضارة عظيمة تبقى زمناً طويلاً في الذاكرة العربية والعالمية، ويتباهون بها بين أقرانهم، ويمشون أمامهم وكأنهم قادة فتحوا المدائن وحققوا انتصارات كبيرة.

في هذا الفضاء المفتوح أصبحت السرقة ميسرة، وما على الداخل إلى هذا الفضاء إلا إدارة محرك البحث أو التواصل مع أشخاص ينشرون وينثرون جمالهم ويطيرونه كما يطيرون الحمام، لأن اللصوص أياديهم خفيفة وسريعة وطويلة للاستيلاء على تعب وجهد غيرهم.
قبل أيام قريبة كنت مشاركاً في فعالية عربية كبيرة حضرها عدد لا بأس به من الجميلين المبدعين وعدد آخر من المتطفلين و«حرامية الثقافة» ، وصادف أن أستمع إلى بعض هؤلاء اللصوص، لكن ذاكرتي حضرت في تلك اللحظة، فبينما يقرأ أولئك بتجلٍّ وثقة عالية، كان سمعي مشوهاً منزعجاً، وكان قلبي يعتصر ألماً، لأنني شعرت أن ما يقال ويقدم ما هو إلا قراءة من نتاج الغير، لكن المبدع غير الغائب عن الحضور ولا يعلم عن أولئك الذين يحاربون بسيفه، وللأسف الشديد كان هناك تصفيق وتفاعل إيجابي مع النصوص، وهذا أمر طبيعي لأنها نصوص جميلة وإبداعية تعب أصحابها على بنائها، وأخذت منهم الوقت والقراءة وتحفيز الذاكرة وتفجير الإبداع من أجل أن تولد قصيدة جميلة، ثم يأتي أمثال هؤلاء لينسبوها لأنفسهم ويستخرجوا لها شهادة ميلاد في غفلة من الذين يستمعون إليهم، لتسجل هذه الوليدة الفاتنة في ذاكرتهم باسم هؤلاء اللصوص.
في مثل هذا الفضاء المفتوح صعد على المنابر أشخاص لا علاقة لهم بالأدب ولا الشعر، بل على العكس فهم على علاقة وطيدة وحميمة بقلة الأدب، وباستغفال الناس وتضليلهم، وفي المقابل تراجع عدد آخر من الجميلين نتيجة الإحباط من هذه الظاهرة التي تقضي على الإبداع، وتفرز طحالب تتسلق على جهود الغير. ومن باب الغيرة على ديوان العرب الذي نعمل بكل ما نستطيع من أجل أن يبقى بابه مفتوحاً للجميع، وأن يعيد بألقه وجماله الذاكرة والذائقة، فقد قمت بالتحقق من هذه السرقات ثم عرضتها على المختصين بالتخطيط للبرنامج الفكري لتلك الفعالية العربية، لكني صدمت برد بعضهم، ولا أدري فربما هي حاجة في نفس «يعقوب» جعلتهم يتنازلون عن المبدأ وعن الضمير والأمانة، لأن ردودهم لم تكن مقنعة في فتح المجال لأمثال هؤلاء اللصوص ليمارسوا لصوصيتهم على الملأ في أكثر من مناسبة، وإلا فكيف يستطيع لص اختراق مثقفين يفترض منهم الاطلاع والدقة في الاختيار، ولا يعني أن مثل هذه السرقات ستضبط دائماً، لكن تكرار ظهورها يكشف زيفها وخداعها، ولو كان رد أولئك إيجابياً في التعامل مع هذا الحدث، والوعد على اتخاذ إجراء قادم من أجل حفظ مكانة المبدع الحقيقي وتقديمه إلى منابر الصدق والجمال، لوجدنا لهم مبرراً في هذا الخطأ، وفي الحقيقة فإنه مع وجود أمثال هؤلاء الذين يشاركون السارق سرقته سيتوارى الجمال وينزوي، إلا أن هناك من لم يصل إليهم خبر هذه الظواهر من باب أنهم وثقوا في أشخاص يفترض أنهم يمحّصون ويدققون في من يحق له الظهور واحترام المتلقي والمبدع في ذات الوقت، لكن المعول على الغيورين الذين لا يسمحون للصوص بأن يسطوا على إبداع الغير «عينك عينك».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"