الصين والتحولات الأوروبية

04:03 صباحا
قراءة 4 دقائق
تميزت الدبلوماسية الصينية على مدى عقود طويلة من الزمن، بالهدوء وعدم الرغبة في الدخول في سياسة الأحلاف التي يمكن أن تدفع بها إلى الانخراط في مواجهة عنيفة، ومباشرة مع القوى الغربية، الأمر الذي يجعل المحللين لا يهتمون كثيراً بالتأثيرات المحتملة للتحولات الدولية الجارية على التوجهات السياسية والاستراتيجية الكبرى لبكين؛ لأن السياسيين الصينيين يعتمدون في الأغلب على دبلوماسية تتميز بالكثير من التحفظ، ولا يلجأون إلى التعبير عن وجهات نظرهم بشأن ما يقع من أحداث، إلا نادراً، وعندما تدعو الحاجة الملحة إلى ذلك. يأتي كل ذلك في سياق القناعات المتوافرة لدى القيادة الصينية، منذ وفاة الزعيم ماو تسي تونغ، بأن المحافظة على نسبة نمو مرتفعة في مختلف المجالات الاقتصادية، يتطلب حالة دائمة ومستمرة من الهدوء والسكينة على مستوى الجبهة الداخلية، في عالم مملوء بالفوضى والجلبة السياسية.
وتشير مجمل التقارير الدولية إلى أن الصين لم تتأثر بشكل كبير بالتحولات الأوروبية الجارية على مستوى «القارة العجوز» والمرتبطة بقرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي. بيد أن ذلك لا يعني في كل الأحول، أن الصين غير مهتمة بما يحدث في أوروبا، ولكن الأمر يتعلق بالدرجة الأولى بطبيعة الرهانات الصينية التي كانت، ولا تزال تفضل التركيز على علاقاتها الثنائية بالدول الوطنية، أكثر من تركيزها على العلاقة مع مؤسسات الاتحاد في بروكسل. وكان لافتاً في السياق نفسه، أن الزيارات التي قام بها القادة الصينيون إلى العواصم الأوروبية، حرصت بالدرجة الأولى على توطيد علاقات بكين مع الدول الأوروبية التي تمتلك سياسة خارجية مستقلة نسبياً عن واشنطن، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، مع الإبقاء في اللحظة نفسها على علاقات مستقرة ومتوازنة مع بريطانيا، وبخاصة منذ انسحاب العرش البريطاني من جزيرة هون كونغ وعودتها إلى السيادة الصينية.

ويمكن القول إن عنصري الاستقرار والاستمرارية اللذين يميّزان العلاقات الخارجية للصين بدول الاتحاد الأوروبي، تم التأكيد عليهما من طرف الوزير الأول الصيني، غداة الاستفتاء البريطاني على خيار الخروج من أوروبا، حيث أكد المسؤول الصيني، على هامش المنتدى الاقتصادي الدولي الذي انعقد في الصين يوم 26 يونيو/حزيران، حرص بلاده على إقامة علاقة متوازنة مع كل من أوروبا وبريطانيا، موضحاً في السياق نفسه، أن القرار البريطاني لن يؤثر في كل الأحوال، في طبيعة المقاربة الصينية بالنسبة إلى الوضع الإقليمي لأوروبا، وفي كل ما يتعلق بالقضايا الدولية؛ واستغل المسؤول الصيني هذه المناسبة من أجل الدعوة إلى المحافظة على رقي واستقرار الاتحاد الأوروبي، لأن العالم أصبح يعيش الآن، بحسب تعبيره، في قرية كونية. وبالتالي فإن هذه الإشارة السريعة من طرف القيادة الصينية إلى عناصر العولمة التي باتت تحكم الاقتصاد العالمي، يأتي في سياق حرص بكين على مواصلة الاستفادة من مزايا هذه العولمة من دون التفريط - بطبيعة الحال- في عناصر سيادتها الوطنية، الأمر الذي يؤكد صحة مقولة الخبراء الغربيين الذين أشاروا إلى أن الصين استفادت بشكل واضح من إيجابيات وفضائل العولمة، ولكنها لم تلتزم بأبعادها وخلفياتها الثقافية والسياسية.
وعليه، فإنه إذا كانت روسيا شعرت بارتياح لا غبار عليه نتيجة خروج بريطانيا التي كانت من أشد المدافعين داخل الاتحاد، عن ضرورة مواصلة سياسة العقوبات الأوروبية اتجاه موسكو، فإن الصين كانت تأمل في بقاء بريطانيا ضمن دول الاتحاد من أجل أن يلعب هذا التكتل القاري دوره في خلق نوع من التوازن مع الولايات المتحدة، وبخاصة على المستوى الاقتصادي، لأن بكين كانت، ولا تزال تعلم جيداً أن توجهات لندن على المستوى السياسي لا يمكنها أن تتعارض مع توجهات الحليف التقليدي في واشنطن. وبالرغم من هذا الاختلاف البسيط ما بين روسيا والصين بشأن الخروج البريطاني، فإن البلدين حرصا في آخر لقاء جمعهما في سياق أجواء الاستفتاء البريطاني، على التأكيد على الطابع الاستراتيجي لعلاقاتهما الثنائية في هذه المرحلة التي يواجهان فيها تحديات كبرى في علاقاتهما الصعبة مع الخصم الأمريكي.

ومن ثم، فإنه وبموازاة الاستراتيجيات المشتركة التي تمت بلورتها في مراحل سابقة في سياق تكتل البريكس، الذي بدأ بالتراجع بعد إقالة الرئيسة البرازيلية من منصبها، فإن البلدين أكدا مجدداً عزمهما على تنمية المبادلات التجارية ما بينهما باعتماد العملتين الوطنيتين. وهي الخطوة التي فسّرها بعض المراقبين بأنها تمثل رداً سياسياً يهدف إلى مساعدة موسكو في مواجهتها لمسلسل العقوبات الاقتصادية الذي تفرضه الدول الغربية عليها. ويمكننا أن ندرج ذلك أيضاً، في سياق تفاهمات سابقة اعتمدتها مجموعة البريكس من أجل التخفيف من وطأ الهيمنة التي تمارسها العملة الأمريكية على الاقتصاد العالمي.

ونستطيع أن نخلص في الأخير إلى أنه، وبصرف النظر عن التحولات الأوروبية والدولية الجارية، فإن بكين تواصل تطبيق استراتيجيتها الرامية إلى المحافظة على قوتها الاقتصادية الضاربة من أجل المحافظة على نفوذها عبر العالم. وبالتالي فإن الصين ستستثمر بكثير من الحنكة والذكاء، التحولات الأوروبية الجارية من أجل خلق مناخ جديد من التعاون مع أوروبا، بمعزل عن التأثير المباشر للنفوذ البريطاني والأمريكي المشترك.

الحسين الزاوي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"