الشخصية الفلسطينية غير قابلة للتصفية

03:29 صباحا
قراءة 3 دقائق
إلياس سحّاب

قليلة هي السنوات الواعدة التي مرت بالقضية الفلسطينية خلال ربع قرن، والأكثر هي السنوات التي مرت بالقضية، وهي مثقلة بالغيوم، وسماؤها ملبدة بالسواد، لكن هذه السنة، في منتصف عهد الولاية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب ستكون من أصعب السنوات، وقد تكون أصعبها التي مرت حتى الآن على القضية الفلسطينية، لأنها تقف بكل جدية على أشد وأعتى محاولات التصفية التي مرت بها، علماً أن محاولات التصفية لم تتوقف عن تهديد القضية الفلسطينية، حتى منذ بداية عقد الخمسينات، وقبل أن تمر سنوات عشر على نكبة العام 1948. فالوضع العربي العام بالنسبة لهذه القضية، هو في أصعب أوضاعه، منذ بداية القضية وحتى يومنا هذا، حيث فقدت القضية تماماً موقعها كقضية أولى.
وأرض فلسطين كلها التي اكتمل وضعها تحت الاحتلال منذ العام 1967، لم تتعرض إلى محاولات الهضم والتصفية كما تتعرض في هذا العام، سواء من حيث إيغال «إسرائيل» في محاولات تهويد الضفة الغربية والقدس، وعزل قطاع غزة عزلاً كاملاً، أو من حيث الوضع الدولي، حيث مرت قبل أيام فقط أولى محاولات في التاريخ السياسي للدولة الكبرى، الولايات المتحدة الأمريكية، بسحب اعترافها، بأن كلاً من الضفة الغربية، وقطاع غزة، تقع تحت الاحتلال، بعد أن أضافت إليهما أرض الجولان السوري، التي سحبت واشنطن الاعتراف بها كأرض محتلة، للمرة الأولى منذ العام 1967.
قبل ذلك، وفي الفترة الزمنية نفسها، أطلقت الولايات المتحدة إعلانها الاعتراف بمدينة القدس «عاصمة أبدية لإسرائيل»، ونقلت إليها سفارتها من تل أبيب، داعية سائر دول العالم الغربي بالذات، إلى الحذو حذوها.
أضيف إلى كل ذلك قيام دولة الاحتلال بإعلان «إسرائيل»، بكل ما يقع تحت أيديها من أراض محتلة في العامين 1948ثم 1967، دولة يهودية، لاغية بذلك (من جهتها طبعاً) أي حقوق لشعب فلسطين في أرض وطنه التاريخي فلسطين.
أما عن الجانب الفلسطيني، فإن الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، لم يصل قبل الآن حداً كالذي وصله مع مطلع هذا العام، سواء في العلاقة الجغرافية، أو العلاقة السياسية، بحيث وصلت السلطة في كل من القطاعين إلى أقصى درجات التباعد والتنافر والتناقض، بما يقدم أجل الخدمات لخطط الولايات المتحدة والحركة الصهيونية في تحديد المصير النهائي لقضية فلسطين.
تحت الغيوم السوداء للأوضاع المحيطة بفلسطين، أعلنت الولايات المتحدة بكل صراحة أن العام الحالي، هو عام إعلان كل تفاصيل تسوية وضعتها منفردة، للتصفية النهائية لقضية فلسطين، وإلغاء كل حقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الحقوق الدولية، أو حتى الحقوق الإنسانية، بعد أن سبقت الأمور بإعلان سحب يدها من تمويل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، مقدمة لسحب الاعتراف بأن لا حقوق لهم في العودة إلى وطنهم الأصلي فلسطين.
أمام هذه الصورة الملبدة بالغيوم السوداء، لا يبدو إلا بصيص واحد من النور، هو تماسك وتلاحم وحيوية الشخصية الفلسطينية المميزة، التي مازال يعبر عنها الوجود الفلسطيني، سواء في أرض 1948 أو أرض 1967، أو أرض الشتات العربي والدولي.
قد تتقدم الولايات المتحدة والحركة الصهيونية خطوات مهمة في هذا العام (كما أعلنت وكما تمارس منذ سنوات) نحو تفريغ عدد من حقوق شعب فلسطين التاريخية بوطنه، لكن المؤكد أن شيئاً أساسياً سيبقى عصياً على التصفية على واشنطن وتل أبيب، وهو الشخصية المميزة، إنسانياً وسياسياً وثقافياً، التي يتمتع بها شعب فلسطين، والتماسك والحيوية اللتين يتمتع بهما هذا الشعب، إزاء تفسخ وتناحر سلطاته السياسة على السطح.
فهذه الشخصية المميزة لشعب فلسطين تنتمي إلى الأعماق التاريخية السحيقة لهذه المنطقة الأقدم في هذا العالم. والدور الذي لعبته أرض فلسطين وشعب فلسطين، منذ أقدم العصور حتى أحدثها، كصلة وصل تاريخية بين أرض مصر، ومن ورائها سائر بلدان المغرب العربي، وحتى دول المشرق العربي في سوريا ولبنان والعراق ومنطقة الخليج، هذه الشخصية ذات العمق التاريخي السحيق، لم تزدها النكبة إلا حيوية وصلابة عصية على حاكم متهور يستقوي على بعض مظاهر الضعف العربي والفلسطيني. فكل واحد من العشرة ملايين فلسطيني المنتشرين على أرض وطنهم الأصلي المحتل، وفي سائر أرجاء العالم، هو تجسيد حي لهذه الشخصية التاريخية التي يستحيل على أية قوة تصفيتها، ولو كانت مدججة بأعتى الأسلحة المدمرة.
الحقيقة أن محاولات الولايات المتحدة لتصفية قضية فلسطين لم تتوقف منذ خمسينات القرن العشرين، والشخصية الفلسطينية لم تزدد إزاء كل هذه المخاطر إلا ترسخاً وتماسكاً وحيوية.
هذا العام سيكون أصعب الأعوام التي مرت على شعب فلسطين وقضيته، لكن هذا العام سيكون مناسبة لتهزم الشخصية الراسخة لشعب فلسطين كل التسويات المشبوهة من جذورها وكل متفرعاتها، مواصلاً بذلك السعي الحثيث لاستعادة كامل حقوقه، وعلى أرض وطنه التاريخي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"