فن تقديم الحكمة

05:02 صباحا
قراءة دقيقتين
صفية الشحي

تلك الحكمة التي تسبق عصرها، ككثير من شخصيات ذلك الزمن التي عبرت إلى الحقيقة والمعنى، بالثقافة المكتسبة من الأسرة والجار و«مطوع الفريج» والراديو، العين والأذن على العالم ومجرياته، وهو زمن لم يتلهف الناس فيه إلى تبديل الحدث كما يبدل المرء ثيابه، فقد كانوا يعيشون التفاصيل ويبنون وجهات نظرهم، ويكتشفون الثروة الكامنة في شفاهتهم الفصيحة وقصائدهم.
وأتساءل، وأنا أقرأ مقالات دونتها أقلام في السبعينات والثمانينات من عمر دولتنا الفتية، ورسائل بأقلام سيدات مجتمع بالمعنى الحقيقي، وقصصاً تثير الدهشة، لأنها لم تصل إلينا قبل اليوم، كيف غبنا بفعل الحياة أو نشوة الحداثة الاجتماعية والاقتصادية، عن «الأولين» وحكاياهم ومواقفهم التي سجلوها دون تردد، حين لزم الأمر، وهي مواقف فيها من العروبة والصدق وإخلاص النيات، الكثير، للوطن المحمول في القلوب والضمائر، حتى وإن فارقت الأقدام عتبات بيوت الأهل ومجالسهم.
في كتاب للدكتورة رفيعة غباش، وهي أول طبيبة نفسية، وأول امرأة تعين عميدة لكلية الطب في الإمارات، وتولت رئاسة جامعة الخليج العربي، حمل عنوان «امرأة سبقت عصرها»، منفذ إلى عصر يكاد يكون ابن اليوم، عندما نتأمل في طبيعة الشخصيات المذكورة بين دفتيه، من حيث التحرر الفكري والاقتصادي، وحتى الموقف من الحدث العربي، ومن حيث النقيض الذي اختلط بخبز العيش وملحه، في أبناء ذلك الزمن، على التناقضات والشظف وكثرة التحديات.
وقد كتبت الدكتورة غباش عن السيدة عوشة بنت حسين، رسالة مطولة جاء فيها ما تجاوز الحنين إلى شخص الأم الراحلة، إلى إكبار جيل كامل من النساء والرجال، الذين حرثوا في البحر ونحتوا في البر، حتى تولد السيرة التي يتغنى بها جيل اليوم، دون أن يدرك ما وراءها، إلا في قصص متعارف عليها، يتناقلها الإعلام، مكرساً جانباً مشرقاً، تتوارى خلفه خفايا من الفصول والمشاهد التي بنيت «بالوعي زمن اليقظة الأبدية التي لا يعرف بعدها نوم»، وعي طال جميع مناشط الحياة، إلا من منغصات، كما حدث في قصة «قراءة رسائل السيدات» في إذاعة صوت العرب، واستنكرها الناس، أو في مساجلات طريفة ارتبطت بالحافلة التي كانت تقل النساء اللواتي رغبن في استعادة إنسانيتهن بالعلم، فظهرت قصة «باص العيايز».
ومن قضايا كالتحرر المالي، وتمكين المرأة وحقوقها، إلى صور مؤثرة وموثقة لرحلة طويلة في البناء الإنساني والمعرفي، بالتعليم والعمل والغربة من أجل التطوير والتجديد، ما يدفعنا إلى «عيش الأسئلة» كما يقول ريكله، وتمثل أصل الحكمة النابتة في القصة الجمعية وفي الشفاهة المتوارثة بالشعر والأمثولة، ودون أذن مصغية، قد يصعب علينا الصمود أمام عصر مريض بالتبرم والاختصار؛ فتاريخنا الذي حفظه رواد ورائدات، مثل الدكتورة رفيعة غباش، هو فرصتنا المثالية لنستعيد العلاقة بين الروح والعين واليد، وبين القول والممارسة، ونصغي «بعاطفة»، كما تقول فيرجينا وولف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"