ريمة أصابت الفرنسيين والمسلمين

01:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي
في واحدة من الصور الدالة لجريمة باريس المروعة الأربعاء الماضي يبدو أحد القتلة الثلاثة في الشارع أمام مبنى صحيفة شارلي ايبدو وهو يوجه سلاحه إلى رأس الشرطي من أصل مغربي أحمد المرابط الذي كان يحرس البناية التي تقع فيها الصحيفة المستهدفة . الصورة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي ومنها إلى مئات المواقع الأخرى وداخل الصورة نسب كلام مفترض إلى القاتل هو أنا إرهابي، وكلام للضحية الذي كان يحرس الصحيفة والعاملين فيها: أنا مسلم . هذه الإضافة الدالة أياً كان الذي أضافها تعكس الوعي الايجابي الذي يعبر عن الشرائح الأعرض من المسلمين الذين استهولوا وقوع الجريمة أولاً، وتعاطفوا مع الضحايا وعائلاتهم ثانياً، واستشعروا مجدداً خطر تشويه صورة الإسلام والمسلمين ثالثاً .
وكما في فظائع إرهابية سابقة فإن جموعاً من المسلمين المقيمين في الغرب أو ممن يحملون جنسيات دول غربية سيجدون أنفسهم في وضع دفاعي ويكادون يعتذرون عن وقوع جريمة نكراء لا يد لهم فيها على أي وجه من الوجوه، وسوف يجدون من يتفهمهم ويدافع عنهم، كما سوف يصادفون من يتشكك بهم ويؤلب الآخرين ضدهم لمجرد أن القتلة المهووسين ينتمون إلى الدين نفسه الذي يعتنقونه . وهو أمر من قبيل العجب العجاب أن يؤخذ أكثر من مليار شخص بجريرة بضعة اشخاص هنا، أو حتى بضع مئات وآلاف هنا وهناك .
اعتبر مراقبون إعلاميون أن جريمة باريس هي الأولى من نوعها منذ أربعة عقود في الديار الفرنسية وذهب بعض آخر للقول إن المقتلة هي بمنزلة 11 سبتمبر فرنسي . وليس لأحد أن يلوم الفرنسيين على استهوال المذبحة التي وقعت في وضح النهار وبطريقة استعراضية كحال بعض الجرائم التي ترتكبها عصابات الجريمة المنظمة . واستهدفت صحيفة وصحفيين وتقاليد حرية التعبير في عاصمة الأنوار (النهضوية) . في هذا السياق تستحق التنويه الإيجابي التصريحات التي سارع الرئيس الفرنسي هولاند لاطلاقها عقب وقوع الجريمة، والتي نأت بالاسلام والمسلمين عن هذه الجريمة الشنعاء، التي ستظل أصداؤها تتردد في المحافل السياسية والإعلامية والاجتماعية في فرنسا وفي الغرب عموماً لأمد غير قصير .
في واقع الأمر أن التعميم هو آفة التقييم لدى وقوع جريمة معزولة كهذه الجريمة . ولن يوصل التعميم العرقي والديني لأي مكان . . مهما كانت الإغراءات التي تدفع بهذا الاتجاه . وعلى سبيل المثال فإن الفرنسيين لا يتحملون وزر صعود اليمين المتطرف في فرنسا خلال السنوات العشر الأخيرة ولن يكونوا في موقع الاتهام أو التشكيك بهم، والأصح القول إن تصدّر هذا اليمين الذي لا يخلو من جنوح عنصري أحياناً، يخالف التقاليد الفرنسية، والهوية الحضارية التعددية لهذا البلد . كما أن بروز بعض المتطرفين الذين ينتمون لقوميات في منطقة القوقاز مثلاً ضمن تنظيم داعش الإرهابي، لا يتحمل مسؤوليته من قريب أو بعيد أبناء تلك القوميات ولا غيرهم من المسلمين .
ربما كان هذا نقاشاً قديماً بعض الشيء، لكنه لا يفتقد راهنيته في ضوء جريمة باريس الأخيرة . فالرد على هذه الجريمة يكون أولاً بالاتحاد ضدها ضمن واقع التنوع الثقافي، وباحترام هذا التنوع وليس بتضييقه، أو بتحويل الاحتقان المشروع ضد القتلة إلى احتقان اجتماعي لدى هذا الطرف أو ذاك، بما قد يحقق بعض أهداف القتلة بتصنيف الناس والمواطنين بين أخيار وأشرار حسب الهوية الدينية والعرقية لكل منهم .
وإن يعلن تنظيم "القاعدة" فرع اليمن مسؤوليته عن ارتكاب المذبحة، فذلك يحصر ما حدث في نطاق هذا التنظيم الذي مهما اتسع نفوذه الإرهابي في بعض البلدان، فإن هذا النفوذ لا يجد له ترجمة في المجتمعات الإسلامية حيث بقي على هامشها، وليس التنافس بينه وبين "داعش" سوى تنافس على الهامش الضيق والقصي من نسيج المجتمعات الإسلامية (أو لنقل مجتمعات المسلمين)، التي سبق لها أن رحبت ترحيباً غامراً بموجة الربيع العربي السلمية والديمقراطية، بعيداً عن كل عنف دموي من أي مصدر أتى .
وفي القناعة أن إشاعة الديمقراطية والتشاركية والاستجابة لرسالة الربيع العربي ما زالت مهمة قائمة، وذلك لقطع الطريق على نمو أية بيئة اجتماعية أو فكرية حاضنة للعنف والإرهاب، وهو ما يستحق أن يكون محل دعم وتحبيذ من طرف المجتمع الدولي، وكذلك الأمر بما يتعلق بتقدم أكبر في الغرب باتجاه وضع حل عادل للقضية الفلسطينية، يحاصر التطرف الصهيوني القائم على رؤى عنصرية والذي يتغذى منه تطرف متشددين إسلاميين، ومن دواعي السخرية والاستهجان حقاً أن يتم استهداف بيئة الإعلام في فرنسا التي تتعاطى بقدر ملحوظ من الموضوعية مع الحق الفلسطيني، كما بينت ذلك المواقف من مداولات مجلس الأمن في الأشهر الأخيرة بخصوص تحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال .
إنها حقاً لأيام كئيبة منذ الأربعاء الماضي حتى يوم الناس هذا، فقد عاش أبناء الشرق الأوسط العربي أجواء صقيع وعاصفة ثلجية عاتية كالتي تشهدها أوروبا في فصل الشتاء، وأودت بحياة عشرات الأشخاص المشردين والنازحين، وفي هذه الأجواء القاتمة وقعت جريمة باريس، وانتشرت معها غلالة من كآبة ثقيلة شملت غرب البحر المتوسط وشرقه . لعل في وحدة الحال هذه ما يفتح الأعين على ما يجمع البشر، بتنوعهم وتعدد مواطنهم وثقافاتهم .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"