أرى في الهند عجباً

03:59 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

أن تجري انتخابات حرة في عالم اليوم، الأمر في حد ذاته يعد مثيراً ومنعشاً، أما أن تجري انتخابات حرة في أيامنا هذه، وفي دولة بظروف الهند، فهو أمر حقاً عجيب. كان من حسن حظي أن تنشأ أول علاقة لي بالديمقراطية في الهند حين كلفتني حكومة بلادي أن أخدمها في نيودلهي. قامت بعدها علاقات أخرى بيني وبين الديمقراطية، في إيطاليا مثلاً وكندا وشيلي والأرجنتين لم تترك واحدة منها في نفسي ما تركته تجربتي المبكرة في الهند. كنت صغيراً؛ وهو سبب دافع للانبهار، وكنت أيضاً متشوقاً وشغوفاً ومحباً ومتعاطفاً، وكلها أسباب حاضنة للانبهار بهذه الحالة الخاصة جداً من النضج السياسي.
بعد مرور ما يزيد على ستين عاماً وجدت نفسي خلال الأسابيع القليلة الماضية مشدوداً إلى دورة جديدة في حملة انتخابات برلمانية تجري في الهند. راح ظن أصدقائي في بداية الأمر إلى أنني وقد تغيرت بالمعرفة الأوسع والتجارب العديدة لن أكون شديد التعلق بالحالة الهندية. أخطأوا الظن، فالهند كانت أول خطوة واسعة وراسخة أخطوها في علاقة قوية ومتشعبة بالعالم الخارجي؛ بعد خطوات صغيرة خطوتها، وأنا طالب بالجامعة نحو علاقات سريعة بفلسطين غير المحتلة، وفلسطين المحتلة، والسودان وليبيا. أقمت علاقات بشعوب عديدة وانغمست في حب واحترام ثقافات كثيرة. اختلفت الهند. في الهند اجتمعت ظروف الحب والحنان مع سحر الهند وأساطيرها، وسخاء الفكر والتاريخ مع عنفوان الشباب لتصل بي إلى أبواب مرحلة جديدة من مراحل التكوين. بعد الهند وأينما ذهبت أو عشت في رحلة العمر كانت الهند تطل من ناحية أو أخرى على ذاكرتي تجددها وتنعشها.
النتائج تعلن فوز حزب بهارتيا جاناتا فوزاً كاسحاً، وسقوط حزب الكونجرس سقوطاً مدوياً. لم تفاجئني هذه النتائج باستثناء معلومة هزتني إلى الأعماق؛ إذ جاء في الأنباء أن راؤول غاندي، رئيس حزب الكونجرس وحفيد جواهر لال نهرو وانديرا غاندي لم يتمكن من الاحتفاظ بمقعده في بلدته ومسقط رأسه في ولاية أوتار براديش. معنى الخبر ومغزاه أن الشعب الهندي قرر أن عائلة غاندي أدت واجبها وآن أوان رحيلها من المشهد السياسي، أعتقد الآن وبعد تأمل أن الخبر يعني ما هو أهم. يعني نهاية طبقة سياسية استلمت حكم الهند من المستعمر الإنجليزي، وقادت بحزب الكونجرس المسيرة الديمقراطية، لتتسلمها منها طبقة سياسية جديدة بجذور وأفكار وعقيدة وقواعد شديدة الاختلاف. ألم يحدث هذا في كل البلاد النامية وبلدنا منها؟
إن نسي الهنود فلن ينسوا أنهم عاشوا لسبعين عاماً في دولة موحدة تتمتع بدستور لم يتعرض لتجديدات دورية، دستور وضعه الآباء المؤسسون ينص على شرطين لوجود الدولة ونهضتها، اشترط الاشتراكية والعلمانية. والشرطان الآن محل تهديد جسيم.
في نظري، ونظر مراقبين آخرين، لم ينفذ نارندرا مودي تعهداته للناخبين الذين أتوا به لمرتين متتاليتين بنصر ساحق لم يحصل على مثله حزب في الهند منذ آخر انتخابات اشتركت فيها انديرا غاندي. لم تحقق الهند في عهده المنقضي هذه الأيام أي زيادة في الإنتاج الزراعي. صدق الخبراء الذين وصفوا الحالة الزراعية في الهند بالأزمة. أضف إلى أزمة الزراعة أزمة أخرى تمس كافة شعوب الهند وطوائفها. إنها أزمة التوظيف.
حرصت قبيل إعلان نتائج الانتخابات وفي أعقابها مباشرة على أن أراقب تصرفات مودي، فللرجل أساليب في التخاطب والتعبد وازدراء المنبوذين أثارت انتباهي منذ كان حاكماً لولاية جوجارات، هناك بالمناسبة حقق نسبة نمو عالية معتمداً على حزب منضبط نظامياً، ومتعصب دينياً، وطبقة وسطية من صغار التجار والمستثمرين. ومن هناك زحف بحزبه؛ ليحتل الفراغ الذي خلفه على المستوى القومي، أي على كل الهند، الانسحاب المتسارع لنفوذ ومكانة حزب الكونجرس، حزب عائلة غاندي.
تابعت وراقبت مودي وهو يتأهب لإعلان الفوز. رأيته يصطحب عدداً من المصورين الصحفيين في رحلة إلى الجبال؛ حيث راح يقضي منفرداً في أحد الكهوف ساعات تأمل وصلاة. رأيته يمر في قاعات مبنى حكومي؛ ليتوقف ويصلي أمام كل تمثال يرمز إلى أحد الآلهة وأمام كل لوحة ترمز إلى مخلوق مقدس. ما أراه أمامي لا يشبه من قريب أو بعيد قصد الدستور الهندي من شرط العلمانية. هذا هو الرجل الذي يعمل بمساعدة جماهير؛ الهند ليحل في الصورة الهندية محل جواهر لال نهرو، زعيم كل الهنود الذي كان يتفادى الظهور في صورة تجمعه بالرموز الدينية الهندوسية أو غير الهندوسية.
نجح حزب بهارتيا جاناتا لأن مجهوداً ضخماً بذله الزعيم مودي. قيل إن هذه الانتخابات تحولت إلى استفتاء على شخص مودي وأتفق مع ما قيل؛ ولكني أضيف عوامل أخرى؛ إذ كان التفاف الشعب حول الجيش في مواجهته لباكستان قبل انطلاق الانتخابات بأيام ما يشبه الدعوة إلى التفاف مماثل حول مودي في الانتخابات وصنع صورة البطل القومي. ثم إننا لا نستطيع تجاهل دور التيارات الشعبوية واليمينية الصاعدة والحركات الدينية المتعصبة في العالم بأسره في إثارة التكاتف والتضامن داخل صفوف الأغلبية الهندوسية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"