مشكلات إقليمية مستعصية على الحلول

04:04 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

أن تتأجل لسنوات وعقود تسوية قضية أو أزمة، أو أن يتوقف السعي نحو تسويتها، فهذا ما يمكن فهمه في إطار كل حالة على حدة. أما أن تكون كل القضايا والمشكلات الدولية جديدها وقديمها، أو غالبيتها العظمى، مجمدة التسوية أو ممتنعة عن الحل وعصية تتحدى بتعقيداتها إرادة قوى عظمى، أو مستفيدة من غيابها وضعفها، فهذا ما يثير الانتباه ويطرح أسئلة عديدة تتعلق بالحال الحقيقية المتوقعة لمرحلة ولادة نظام دولي جديد.
أبدأ من أبعد نقطة في الغرب. مرت سنوات وأمريكا اللاتينية تراقب باستغراب تطورات الأمور في شمال شرقي القارة، خاصة في الأقاليم الاستوائية. القارة كلها تذكر كيف تدخلت الولايات المتحدة أيام كان هنري كيسنجر يخطط وينفذ فيسوي قضايا ويخطط وينفذ فيخلق قضايا وأزمات. تدخلت أمريكا لوقف عملية تحول أيديولوجي في جنوب القارة فظهر الجنرال أوجستو بينوشيه ليصفي بالقوة نظاماً يسارياً بعد فشل تجارب الصندوق الانتخابي. تدخلت في الحرب ضد تيارات الانتقال إلى الديمقراطية في كولومبيا. جاءت مرحلة تغيرت فيها القارة الجنوبية وتغيرت الولايات المتحدة، تغيرت مكانتها الدولية وفقدت عناصر قيادة داخلية واعية، حتى أنها عجزت لسنوات ولاتزال عاجزة عن تسوية مشكلة نظام حكم متمرد في فنزويلا، الدولة الضعيفة وقليلة الحيلة.
هناك في أقصى الشرق عشنا سنوات نعتبر الهند الصينية، حيث وجدت فيتنام الشمالية والجنوبية ولاوس وكمبوديا إقليماً تجري فيه حرب ساخنة متفرعة عن حرب باردة أشمل وأعم بين أمريكا والاتحاد السوفييتي. استطاع هنري كيسنجر، الانسحاب من الهند الصينية ومن بحر الصين الجنوبي بمنطق لا غالب ولا مغلوب، واستئناف العلاقات مع الصين. خرجت أمريكا من حربها الباردة منتصرة بثقة في نفسها ومكانتها مبالغ فيها. كان معروفاً أن الصين قادرة على أن تقترب من وضع ومواصفات الدولة العظمى، ولكن لن تصل بأي حال في زمن محسوب إلى مكان القوة المنافسة للولايات المتحدة. مرت ثلاثة عقود حاولت خلالها الولايات المتحدة أن تحتفظ ببحر الصين الجنوبي قاعدة نفوذ أمريكي. أفلحت لسنوات وفي النهاية لا يختلف كثيرون على أن الإقليم ينتقل سريعاً ليصبح منطقة نفوذ صيني بفضل خطوات الصعود الصينية المتسارعة مقابل خطوات انحدار أمريكية أيضاً متسارعة. بمعنى آخر سوف تصبح كل قضايا النزاعات القديمة والجديدة بين الصين وكل الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي ومنها إندونيسيا والفلبين قضايا مجمدة تخضع لقواعد القوة المهيمنة الجديدة، أي الصين. بهذا المعنى لن تسوى في الأجل المنظور قضية الجزر الاصطناعية والمحتلة في هذا البحر، أما قضية تايوان فمصيرها المحتوم التصفية، وهو المصير الذي لم تنضج بعد كل مكوناته، وحتى يحين الوقت سوف تبقى موضوعاً لحرب باردة بين الصين وأمريكا.
لن أكون أول ولا آخر من يعتبر الشرق الأوسط أكثر أقاليم العالم قضايا وأزمات، وبعضها عصي إن لم يكن أغلبها على التسوية. بعض هذه النزاعات يشتبك فيها الدين مع الخرافة والجهل مع العنف السياسي وتزييف التاريخ مع الإرث الاستعماري وصراعات السياسة وفسادها. هكذا تخلفت لنا وللبشرية عامة قضية الهيمنة الصهيونية على فلسطين والتدخلات «الإسرائيلية» في مصر والأردن وسوريا ولبنان وإيران وتركيا بهدف فرض المشيئة اليهودية على مستقبل الشرق الأوسط، تخلفت أيضاً مأساة الشعب الكردي وكارثة العراق والأزمة السورية ونكبة الصومال وشبكة الحروب الأهلية في كل من السودان وليبيا. غالبية هذه النزاعات والقضايا تبدو غير قابلة لكثير من أساليب المفاوضة المعروفة مثل أسلوب التنازلات، وإن متبادلة، وأسلوب المصالحة التاريخية، مما يجعلها بعيدة عن التسوية أو يزيدها تعقيداً.
نظرة هادئة إلى وضع النزاعات الراهنة في الشرق الأوسط، أي تحت أوضاع دولية وإقليمية غير مألوفة، سمحت لنا بإثارة عدد من الملاحظات. لاحظنا أولاً أن الوجود الروسي في الإقليم، وبانكشاف النية في بقائه مطولاً، بدأ يؤثر تأثيراً مباشراً وقوياً في سلوكيات الأطراف المتنازعة وفي التحالفات المتكونة حول النزاعات وفي أنماط الإنفاق عليها مثل مشتريات السلاح وتدريب المفاوضين والتعامل بحرص مع المشورات الروسية. لاحظنا ثانياً رغبات مترددة ولكن عارمة من كلا الجانبين، أطراف النزاعات الشرق أوسطية والجانب الصيني، في الاندراج في دوامات الشرق الأوسط. الكل يدرك أن الصين غير بعيدة عن إعلان نظامها الإقليمي الآسيوي بقواعد آسيوية وأساليب عمل آسيوية وتحالفات آسيوية، أو إذا دعا الأمر، أوراسية.
في ظل وضع إقليمي عربي تعتذر فيه جامعة الدول العربية عن تنفيذ واجب اقتحام ساحات النزاعات العربية- العربية أو العربية شرق الأوسطية، وفي وضع إقليمي شرق أوسطي يخيم عليه ظل هجمة توسعية من كل دول الجوار المتاخمة لحدود العرب وتتوارى فيه إرادة الحوار الصريح أو حتى الممكن، وفي ظل اهتمام منحسر من جانب أوروبا والغرب عموماً بقضايا الشرق الأوسط ونزاعاته، أستطيع أن أثق في صحة الرأي القائل بأن الإقليم بلونيه العربي والشرق أوسطي مرشح لمرحلة من النزاعات تختلف جوهرياً في العدد والشكل والصنف والعنف عن كل المراحل السابقة. أستطيع أيضاً تبني رأي آخر يعتقد أن جهود تصفية قضية فلسطين سوف تزداد، وقد تسلك مسالك أخرى أشد وعورة وتكلفة، باعتبار أن الفرصة للتصفية قد تكون الأخيرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"