اللغوي الأديب

حل وترحال
02:16 صباحا
قراءة 3 دقائق
اللغويون يفحصون الأدب. يتصفحونه ويفحصونه. وعندما يميلون إلى كتابته يقْرَبونه بحذر، وبكثير ٍمن التأنّق. فهمْ يصْدرون في كتاباتهم الأدبية عن قناعة ٍلديهم بأنّ الأدب ليس سوى انبثاق ٍلغويّ، أو هو كذلك في المقام الأول. بكلمة ٍثانية، الأدبُ لدى اللغويين أساسُهُ اللغة، أو بالأحرى هم لغوي يطغى على كلِّ هم آخَر. ويعرفُ اللغويُّ الأديبُ أنّ عواملَ كثيرةً وعناصرَ عديدةً تتداخلُ وتتمازجُ في عملية الإنتاج الأدبي. فهنالك مكوِّناتٌ موضوعية (من ناحية الموضوع)، وأخرى انفعالية (من نواحي المشاعر أو المواقف أو العواطف)، وغيرُها مكوِّناتٌ بلاغيةٌ أو إيقاعيةٌ أو رمزيةٌ أو بنائية، وهذا بالإضافة إلى العوامل أو العناصر اللغوية، التي تتجلّى من خلالها طريقةٌ في التعبير، هي شخصيةُ الكاتب أو أسلوبُه.

يعرفُ اللغوي الأديبُ هذا كله، ولكنه في كتاباته الأدبية يحرصُ على إظهار الهم اللغوي طاغياً على مختلف الهموم التي تشاركُهُ في تكوين تلك الكتابات.

راودتْني هذه الخواطر وأنا أقرأ نصوص الدكتور عبد الفتاح الزين، في كتابه «منمنمات»، الصادر حديثاً عن دار البنان في لبنان.
العنوان مناسبٌ جداً، فالكتاب منمنماتٌ من أوّله إلى آخره، في خارجه (غلافه) وداخله، في مظهره ومحتواه، في خطوطه ونصوصه ورسومه وورقه وطباعته وترقيم صفحاته... وما إلى ذلك. وماذا تعْني المنمنمات ؟ هذا بعضُ ما نجدُهُ في المعاجم:

نَمْنمَهُ: زخرفَهُ ونقشَهُ وزيّنَهُ. ونمْنمَت الريحُ الرملَ أو الماء: خطّتْهُ وتركتْ عليه أثراً شبهَ الكتابة. والنمْنَمة (في الفنون الجميلة) هي فنُّ التصوير الدقيق في صفحة ٍأو بعض صفحة في كتاب ٍمخطوط. والمنمْنَمة أو المنمْنِمة هي التصويرة الدقيقة، والكتاب المنمْنَم هو المنقَّش أو الذي تزيّنُهُ منمنمات.

وكأني بالذي عملَ على تصميم وإخراج الكتاب، كتاب عبد الفتاح الزين، إنما قصَدَ إلى استنفاد جميع المعاني (المعجمية) الواردة أعلاه، فتجلّت الأناقةُ والدّقّة في الغلاف، ومن صفحة إلى صفحة، وخصوصاً في الرسوم التي أنجزتْها أحلام عباس.
ربما كانت الأناقة والدّقّة، فيما أحاط بنصوص الكتاب، استجابةً للأناقة والدّقّة في النصوص ذاتها. ففي هذه الأخيرة تتجلّى نزعةُ المتخصِّص اللغويّ إلى إنجاز كتابة ٍأدبية ٍتعبِّرُ عن احتفاء ٍباللغة، بل شغف ٍبها. فالأولوية في نصوص عبد الفتاح هي للرشاقة اللغوية. الكتابةُ الأدبية هنا هي تهذيبٌ وصقْلٌ في تركيب الجُمَل، هي صياغةٌ تتوخّى السلاسة والمتانة في آن، تاركةً المواقفَ أو الحالات ِأو الرؤى في مرتبة ٍثانوية.

فالمواضيع متنوّعة، فيها شؤونٌ ذاتيةٌ أحياناً، وشؤونٌ عامّةٌ أحياناً أخرى، وهي في أساسها تأملاتٌ وخواطرُ مرّتْ في ذهن صاحبها في أزمنة ٍمتباعدة، فكان يرْمي في كلِّ مرّة ٍ إلى تناولها مدفوعاً بحبه للغة، همُّهُ اللغويُّ في تناولها هو السابقُ لهمِّه الأدبيّ.

الكتابةُ الأدبيةُ في نصوص عبد الفتاح الزين هي ملاطَفةٌ لغويةٌ لحالات ٍ ومواقفَ متنوّعة، هي بوْحٌ لا يدّعي اختراقاً ولا يسعى إلى مغامرة، هي ملامسةٌ لِما أحسَّ به الكاتبُ أو خطرَ له، فأحبَّ أنْ يُنمْنِمَهُ باللغة، كما «تُنَمْنِمُ الريحُ الرملَ أو الماء».
من جهتي، كثيراً ما يحلو لي أن أقول إن النص الأدبي هو كيانٌ لغويّ.

حُسْنُ التصرف باللغة له دوْرٌ أساسي في تكوينه، هذا الدوْر ضروري ولكنّه ليس كافياً.

فالتمكن اللغوي يتضافرُ في النصّ الأدبيّ مع مقوِّمات ٍأخرى، فكرية ٍأو بلاغية ٍ أو رؤيوية...أو غير ذلك. والنص الأدبي، في تحققه كياناً لغوياً، إنما يلعبُ حيالَ اللغة دوْرَ الكاشف عن المزيد من أسرارها، من إمكاناتها الإبداعية، وهذا كلهُ بدا ماثلاً لدى عبد الفتاح الزين في نصِّه الأدبي الأنيق.

جودت فخر الدين

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"