الانتخابات الإسبانية ومأزق التّحالف الحكومي

03:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. إدريس لكريني

تعدّ التجربة الديمقراطية الإسبانية من ضمن أبرز التجارب الحديثة التي أفرزت تراكمات سياسية مهمة، سمحت باكتمال عجلة التناوب السياسي، ودخول البلد ضمن نادي الدول الديمقراطية التي تقدم مجموعة من العبر الجديرة باستحضارها ضمن تجارب الدول الساعية إلى تحقيق انتقال ديمقراطي في عالم اليوم.
وتستأثر هذه التجربة بقدر كبير من الأهمية، لكونها جاءت نتاج تحول سلميّ متدرج وطويل قاده النظام السياسي الإسباني نفسه في إطار التفاعل مع المطالب الشعبية المتزايدة، ومع المتغيرات الإقليمية أيضاً، وهو ما أتاح لهذا البلد مراكمة عدد من المنجزات والمكتسبات على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ولا سيما بعد صدور دستور 1978، والانضمام إلى الاتحاد الأوربي.
شهدت إسبانيا أخيراً تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، بمشاركة عدد من الأحزاب السياسية التقليدية، وأخرى جديدة من أطياف وتوجهات مختلفة، وهي الانتخابات الرابعة عشرة منذ تحقق الانتقال الديمقراطي في البلاد، والثالث ضمن أقل من أربع سنوات مضت، والتي سعى من خلالها «بيدرو سانشيز» إلى تجاوز حالة الجمود التي باتت تطبع المشهد السياسي للبلاد، وبخاصة أن وصوله إلى رئاسة الحكومة جاء بعد سحب الثقة من غريمه «ماريانو راخوي» المنتمي إلى حزب الشعب، بدافع الاشتباه في قضايا فساد، وليس بناء على تنافسية انتخابية.
كما تأتي هذه الانتخابات أيضاً في أعقاب تصويت البرلمان الإسباني ضد مشروع الميزانية الذي تقدمت به الحكومة التي يرأسها «سانشيز». ويبدو أن دعوة هذا الأخير الملحّة إلى تنظيم هذه الانتخابات، هي تجسيد للرّغبة في إعادة الاعتبار والسعي إلى توفير شروط أفضل للاشتغال من داخل تحالف أكثر قوة وانسجاماً.
خيّمت الكثير من القضايا والأولويات على الحملة الانتخابية التي قادتها الأحزاب السياسة الوازنة (الحزب العمّالي الاشتراكي الإسباني الحاكم، والحزب الشعبي في إسبانيا الذي يمثل الاتجاه اليميني، وحزب المواطنة ذو التوجه الليبرالي، والرافض لانفصال كاتالونيا، ثم حزب «بوديموس» (نستطيع) الذي يمثل اليسار)، سواء تعلق الأمر منها بالإشكالات الاقتصادية والاجتماعية، وقضايا الهجرة، وقضايا المرأة، أو تداعيات التوجهات الانفصالية في إقليم كاتالونيا و«الهوية الوطنية»، أو تنامي التوجهات العنصرية لبعض الأحزاب.
وقد أظهرت النقاشات التي أفرزتها الحملة الانتخابية وجود اختلاف واضح بصدد التعاطي مع مختلف هذه القضايا من قبل هذه الأحزاب، وهو ما أعطى دينامية واضحة وتنافسية أكبر لهذه الاستحقاقات، وأتاح للناخبين فرص الاختيار بشكل أكثر وضوحاً،
فقد حذّر «سانشيز» (عن حزب العمال الاشتراكي) خلال حملته الانتخابية من إمكانية عودة الأحزاب اليمينية إلى السلطة، معتبراً أن تحقق ذلك هو مدخل لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتفشّي الفساد بكل أشكاله ومظاهره.
وفيما يتعلق بمشكلة الانفصال في إقليم كاتالونيا، وعلى الرغم من رفضه الصارم لهذا الخيار، عبّر في كثير من الأحيان عن تفضيله لأسلوب التفاوض مع النخب الانفصالية في الإقليم، والذين واجهتهم السلطات بقدر كبير من الصرامة سابقاً. كما أكد أيضاً خلال هذه الحملة أن فوز حزبه سيشكل حصناً ضدّ أي توجّه انفصالي في هذا الإقليم، مع التعهّد بمواجهة كل مظاهر الإقصاء الاجتماعي في البلاد.
أفرزت هذه الانتخابات التي تميزت بمشاركة شعبية واسعة وصلت إلى حدود 75,7 في المئة، بزيادة ملحوظة بلغت نسبتها نحو 9,3 في المئة مقارنة مع الانتخابات السابقة، فوز حزب العمال الاشتراكي الذي يقوده «سانشيز» بنسبة مهمة من المقاعد (123 مقعداً) بنسبة 28,7 في المئة، لكنها لا تمنحه الأغلبية اللازمة (176 مقعداً) التي تؤهله لتشكيل الحكومة بمفرده، وهو ما يطرح ضرورة الانفتاح على مكونات حزبية أخرى في هذا الخصوص، فيما تمكن اليمين المتطرف من إحراز تقدم ملحوظ في هذه الانتخابات أيضاً بعد مرور أكثر من أربعة عقود على رحيل الديكتاتور «فرانكو»، بينما احتل الحزب الشعبي المرتبة الثانية (66 مقعداً) بنسبة 16,6 في المئة، متبوعاً بحزب «سيودادانوس» (57 مقعداً) بنسبة 15,8 في المئة، يليه حزب «بوديموس» (42 مقعداً) بنسبة 11,9 في المئة، ثم حزب «فوكس» اليميني المتطرّف الذي فاز (24 مقعداً) بنسبة بلغت 10 في المئة من الأصوات.
وجدير بالذكر أن ولوج هذا الأخير (حزب «فوكس») إلى البرلمان الإسباني للمرة الأولى منذ تشكيله عام 2014 من قبل عدد من الأعضاء السابقين في الحزب الشعبي المحافظ، بعدما ظلّ حضوره رمزياً في المشهد السياسي للبلاد في السنوات الأخيرة، مثّل حدثاً مميزاً لهذه الانتخابات، بالنظر إلى المواقف المثيرة للجدل لهذا الحزب، فيما يتعلق بقضايا المرأة والمهاجرين وطالبي اللجوء، والتأكيد على استخدام القوة في التعاطي مع التوجهات الانفصالية في كاتالونيا، وحظر أحزابهم.
وعلى الرغم من الفوز الذي حققه الحزب الاشتراكي، فإنه يظل بحاجة إلى عقد تحالفات مع قوى حزبية أخرى كسبيل لقيادة حكومة أكثر قوة وانسجاماً.
ويبدو أن مهمة «سانشيز» في تشكيل تحالف حكومي منسجم وفي مستوى التحديات المطروحة، لن تكون سهلة، بالنظر إلى الفسيفساء السياسية والحزبية التي أفرزتها هذه الانتخابات. وهي مهمة تعيد إلى الأذهان المفاوضات الشّاقة والعسيرة لتشكيل الحكومة في أعقاب انتخابات 2016، والتي استغرقت زهاء سنة من المشاورات.
ويشير الكثير من الباحثين والمراقبين إلى أن ثمّة مجموعة من الاحتمالات المتعلقة بالتحالفات الممكنة، أولها التحالف مع اليسار الراديكالي، كما هو الشأن بالنسبة لحزب «بوديموس» (نستطيع)، وبعض الأحزاب اليسارية الصغيرة الأخرى داخل الأقاليم، كما تطرح إمكانية عقد تحالف آخر مع حزب المواطنين الليبرالي، وهو خيار لا يخلو من صعوبات، بالنظر إلى إعلان الحزبين معاً خلال حملتهما الانتخابية عن رفضهما لقيام تحالف مشترك بين الجانبين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"