ذاكرة غابرييل غارسيا ماركيز

رفيف
02:09 صباحا
قراءة دقيقتين

هل كان الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز يتوقع أياماً من العزلة في شيخوخته الثمانينية عندما كتب، وهو شاب روايته مئة عام من العزلة مستعيراً من حكايات وأساطير الكاريبي تلك الواقعية السحرية التي شغف بها قراء الرواية في العالم كله، الأمر الذي جعله يصل إلى نوبل بربطة عنق بيضاء ومظهر ارستقراطي يليق به حقاً . ولكن لم يأت هذا المجد إلى ماركيز من فراغ . ففي شبابه، وعندما كان يعمل صحافياً لم يكن يتوفر له من متع الحياة ومتاعها غير القليل من الأشياء التي علقت في ما بعد في رواياته العالمية والتي تجاوزت سقف الترجمة إلى اللغات الحية في العالم، حتى بات صاحب الحب في زمن الكوليرا كاتباً كونياً، فبعض مجريات روايته مئة عام من العزلة تحدث في قرية نائية في أمريكا الجنوبية، ولكن القرية النائية أصبحت قرية كونية من خلال سرد روائي فاتن نابع من قلب ماركيز وذاكرته، بل يمكن بشيء من المقارنة والمطابقة استنساخ قرى كثيرة من العالم، خصوصاً من عالمنا العربي ومن آسيا الفقيرة وإفريقيا الحارّة مثل كوب من الكاكاو، استنساخ هذه الأمكنة السحرية الحكائية من قرية ماركيز التي يقطنها كاريبيون يجيدون الضحك وسرد الحكايات والسخرية .

بلاد ماركيز أو محيطه التاريخي والجغرافي أنتج عباقرة في كرة القدم وفي الغناء والموسيقا بالقليل من المتطلبات الإنسانية الفقيرة، وجاء هو الذي كان في شبابه الفقير يبيع علب البيبسي كولا الفارغة لكي يأكل، جاء ليضيف إلى تلك الأرض النائمة في العزلة فناً آخر هو الرواية، حتى أصبح ملكها المتوّج على عرش تفوح منه رائحة الجوافة .

بكلمة ثانية كانت ذاكرة ماركيز هي سرّ عبقريته . إنها ذاكرة تلك الواقعية السحرية التي استنبطها النقاد من روايات ماركيز وحده، في حين من النادر استيلاد مصطلح نقدي بعينه إلا من خلال ظاهرة روائية يتشارك فيها عدد ملحوظ من الكتّاب، إلا أن ماركيز وحده هو مرجعية مصطلح الواقعية السحرية التي ولدت أول ما ولدت في ذاكرة ملك الرواية في القرن العشرين .

اليوم ذاكرة صاحب خريف البطريرك تذوي وتضمحل آخذة إياه إلى ما يشبه البياض الكامل الذي انمحت فيه الوقائع والتفاصيل بل الصور والوجوه، أي الذهاب البطيء يوماً بعد يوم إلى عزلة عمرها أكثر بكثير من مئة عام .

ماركيز الذي قدّم للعالم مذاقاً روائياً رفيعاً ليس خرفاً ولن يكون خرفاً، فقط خانته الذاكرة، ولكن الأهم من ذلك أن أعماله الروائية هي كلها ذاكرة بشرية إنسانية كونية، وليست ذاكرة مكان في حدّ ذاته، وهذا سرّ عالمية هذا الرجل الذي يكتب وإلى جواره زهرة صفراء وامرأة تنحني إليه . . وتبتسم .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"