لو أنه اشترى قمراً لعائشة

00:07 صباحا
قراءة دقيقتين

.... مرّت الذكرى الخامسة والعشرون على رحيل الشاعر عبدالوهاب البياتي قبل أيام بصمت صحفي مطبق، باستثناء القليل القليل من الصحف العربية، واللّافت هنا، أن البياتي عاش فترات كافية من حياته ليكون ذاكرة شعرية وأدبية من المجحف تجاوزها أو تجاهلها في مصر، والأردن، وسوريا بشكل خاص، ومع ذلك مرّت ذكرى رحيله في تلك الأوساط العربية من دون استعادة تليق بشاعر هو واحد من روّاد الشعرية العربية الحديثة، كما هو نموذج على شخصية الشاعر المستقل، المعتز بكرامته وكرامة الشعر، والعدوّ المطلق لرموز الطغيان المخيّم عادة فوق رؤوس فقراء الأرض،.. والبياتي واحد من أبرز الشعراء المدافعين عن ضعف الإنسان، واستغلاله وسقوطه ضحية للظلم والاستبداد.
هذه الشخصية الثقافية والأدبية وبهذه الملامح الإنسانية العظيمة، تتجلّى بكل وضوح في شعره أولاً وأخيراً، أي أن مواقفه المنحازة للإنسان في أقصى درجات انكساره لا تظهر على شكل شعارات أو متاجرات إعلامية إن أمكن القول، بل تظهر مواقف البياتي تلك في قصائده المباشرة، الحادّة، المكتوبة بالكبرياء وعزّة النفس، والسخرية من كل ما هو مزيّف وكاذب.
في العشرين من عمري قرأت عبد الوهاب البياتي، ومنذ السطور الأولى انبثق ما يشبه الضوء في الكلمات، ومن تلك القراءة الأولى رحت أبحث عن كل ما له صلة بهذا الشاعر الذي يتحدث كثيراً عن المنفى، ويستحضر شخصيات تاريخية وصوفية وشعرية في نصّه الذي لا يعود إلى أي شاعر سواه.
توقفت ممتلئاً بالسر والغموض عند شخصية عائشة التي تتردد في قصائده، وحين دارت الأيام لأرتبط بصداقة أعتز بها مع البياتي (أبو علي) في أثناء إقامته في الأردن في العام 1996، حينذاك، وفي ليلة شتائية كان يتساقط فيها الثلج فوق عمّان.. سألته على شيء من التحفظ أو الخجل..: من هي هذه المرأة عائشة التي ترد في الكثير من شعرك يا أبا علي؟؟.. هل هي أوّل حب، أم هي مجرّد رمز أم هي قناع مثل أقنعتك الشعرية..؟
عندها تورّد وجه البياتي، ورأيت رقرقة فضية في عينيه، لكنه ابتسم، وأخرج ببطء صورة فوتوغرافية كانت موجودة في محفظته، وبسرعة، وما إن رأيت الصورة حتى أعادها إلى المحفظة، وأعادها إلى جيبه..
لم يتحدث ولم يتكلم ولا كلمة لا عن الصورة، ولا عن عائشة، ثم لم أتمكن أنا في تلك اللحظة الأشبه بالحلم من التقاط ملامح الصورة، أو لنقل ملامح عائشة تلك.. أحد رموز شعر البياتي.. قيل عن عبد الوهاب البياتي إنه صاحب قصيدة القناع، وقيل إنه شاعر المنفى بالمعنى الوجودي للنفي، وقيل إنه شاعر مديني (من المدينة)، وليس شاعر القرية أو الريف، وقيل إن لسانه حادّ كالسيف، وقيل، وقيل، لكن أحداً لم يقل شيئاً وجودياً أو شعرياً أو رمزياً عن تلك المرأة التي اسمها عائشة.
المرأة التي أراد أن يشتري لها القمر لكنه غاب، وغاب معه قمر شيراز.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3aay4j96

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"