دور ترامب في حياتنا المعاصرة

03:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

أعرف إعلاميين وخبراء سياسيين اتخذوا من متابعة دونالد ترامب هواية شخصية يقضون في ممارستها فترات طويلة من أيام تزدحم بمهام وقضايا حساسة. اجتهدوا في مجالات شتى؛ ولكن تجمعهم جدية الاهتمام، وسعة الاطلاع. يجذبني إلى هؤلاء انشغالي بأفعال ترامب وسلوكاته وفهمه الخاص جداً لوظيفته في البيت الأبيض وللعالم الذي يتصور أنه بعث ليغيره، وليصنع أمريكا كما ينبغي أن تكون. يجذبني إليهم أيضاً خفة ظل ما يدرسون ويناقشون. حتى الكوارث التي تسبب فيها ترامب لها جوانب تبدو لهم أحياناً هزلية أو تنتهي بحالات أقرب في الشكل إلى وضع التهريج وكثيراً ما تنتهي بنتائج غير قابلة للتصديق. المثير في هذه الهواية أنها طاردة للملل، ليس فقط لأن الرجل لا يهدأ بالليل، ولا يستقر على حال أو رأي بالنهار، ولكن أيضاً لأنه مجدد ومشاغب وشجاع في تزييف الحقائق، وخلط القضايا. سمعت من وصفه بأنه متحرش ناجح. تكشف سيرته عن شهرة واسعة في هذا المجال، وبين أفراد طبقة المشاهير. عرف عنه حسن توظيف كل هذه الخبرات؛ لتحقيق مصالحه في عالم السياسة. رأيناه وسمعناه يستميل عتاة القادة السياسيين وأكثرهم حنكة وخبرة بحلو الكلام ومعسول ألفاظ المديح. يعلن على الملأ وقوعه في شباك حب لزعماء رآهم لأول مرة أو قابلهم متأثراً بتقرير استخباراتي. فإذا أساؤوا التصرف أو تأخروا في الاستجابة لمطالبه شهّر بهم، وعاملهم كقاذورات.
يعتقد ريتشارد هاس المحلل الأمريكي المتفرغ والغاضب، أنه بسبب الرئيس دونالد ترامب لن يكون مستقبل آسيا حسناً كما كان يأمل الاقتصاديون. فالاقتصاديون، في رأي هاس، بنوا توقعاتهم على اعتبارات التاريخ والجغرافيا السياسية والخصال الشخصية للقادة الآسيويين، مهما كانت جنسياتهم ومعتقداتهم. لم يحسبوا حساب الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها الرئيس ترامب أو حساب الآثار المترتبة على تقلبات انفعالاته وتغريداته. يعني مثلاً كنا ننتظر أن ينشغل البيت الأبيض ومن ورائه مختلف المؤسسات الأمنية بتنفيذ ما جاء في استراتيجية الدفاع الأمريكي عن الاستعداد لمرحلة تنافس شديد بين الولايات المتحدة من جهة، وكل من روسيا الاتحادية والصين الشعبية من جهة أخرى. ما يحدث الآن لا يعكس نص الاستراتيجية أو روحها؛ إذ أقدم الرئيس ترامب على إقرار عدد من الإجراءات والسياسات في الساحة الأوروبية وفي الشرق الأوسط تسبب الإعلان عنها في وقيعة كبرى داخل الحلف الغربي، وأثارت الشكوك في صدقية الولايات المتحدة كدولة قائد للحلف. في الوقت نفسه كانت الصين مستمرة في إقامة جزر عسكرية اصطناعية في بحر الصين الجنوبي. وكانت أيضاً تتحدى دعاوى الغرب بشأن الأهداف الحقيقية وراء مبادرة الحزام والطريق. كانت مثلاً تخصص من مشروعها الاستثماري؛ لإقامة منتجع على مساحة تمتد خمسة وعشرين كيلومتراً على ساحل كمبوديا جزءاً معتبراً؛ لتقيم عليه قاعدة عسكرية، كما فهمنا من تصريح رسمي فريد من نوعه أذاعته بكين. هذا التطور في حد ذاته ينبئ بفشل أكبر للغرب في آسيا، خاصة أنه يأتي في أعقاب قرار من ترامب ببيع تايوان أسلحة بقيمة مليارين ونصف المليار. يسعى القرار فيما يبدو للضغط على بكين؛ لتتساهل في مفاوضاتها التجارية الجارية مع أمريكا. لم يقدر الرئيس ترامب أن رد الصين سيكون مضاعفاً وفورياً. وبالفعل تشكل وفد يضم أقطاب الحزب الحاكم لزيارة علنية للجزر الاصطناعية في بحر الصين الجنوبي، والإعلان عن القاعدة البحرية في جنوب كمبوديا. بمعنى آخر، وجهت الصين رسالة صريحة لكافة دول جنوب شرقي آسيا ولأمريكا في الوقت نفسه تعلن فيها نهاية عصر الهيمنة الأمريكية في آسيا، وصعود عصر «صيني جديد».
مثال آخر على أساليب صنع السياسة الخارجية في عهد الرئيس ترامب أدت إلى نتائج سلبية. استطاعت أمريكا في ظل مختلف العهود أن تحافظ على الاستقرار العسكري في منطقة شرق آسيا إلى أن جاء ترامب بطلب أن تساهم اليابان في ميزانية الدفاع عن الإقليم وعن نفسها. لم ينتبه ترامب، إلى أن هذا الطلب سوف يعني عودة اليابان إلى عسكرة سياستها الخارجية، عودة لا تحظى برضا الرأي العام الياباني، وتسقط كل الحجج التي تساق إلى كوريا الشمالية؛ لتنزع سلاحها النووي، وتعيد إلى أذهان الرأي العام في كوريا الجنوبية ذكريات عبودية أليمة. وقد أتى رد الفعل سريعاً من هناك، من الكوريتين، الشمالية تجدد عدم ثقتها في وعود ترامب، والجنوبية تفتح الملف البشع، ملف التعويضات اليابانية عن تسخير العمال الكوريين في خدمة الإمبراطورية والفتيات الكوريات للترفيه عن جنود اليابان. خلاصة الأمر، عادت منطقة شرق آسيا تلتهب بتوترات سباق التسلح وذكريات الحرب، والسبب سياسات الرئيس ترامب.
ما زلت أعد نفسي واحداً من كثيرين منبهرين بغموض العلاقة التي تربط بين الرئيسين ترامب وبوتين. سمعت أكثر من مرة وفي أكثر من منتدى من ينسب ترامب إلى بوتين ابناً مدللاً أو تلميذاً مجتهداً. ليس سراً أن ترامب يكره المهاجرين. وصفهم ذات تغريدة بأنهم «حيوانات». المثير للاهتمام أن هذا الكره لم يتوقف عند حدود أمريكا مع المكسيك. فجأة صارت كل مسارح الهجرة ساحات كره ضد الغرباء.
أطلق ترامب إعصاراً. عصف بالدبلوماسية كما عهدناها فناً ومهنة وأخلاقاً. خرب أسس التوازن الحساس بين المؤسسات في النظام الليبرالي كما عرفته أمريكا وحلفاء الغرب. زرع الألغام في كل ركن في أمريكا عاشت فيه طائفة قريبة من طائفة أخرى. ألمح، بكل الاستهتار الممكن، إلى أن يوماً قادماً لا ريب فيه سوف يعود الرجل الأبيض سيداً على كل الأمريكيين، والملونون عبيداً أو أجراء أو على سفن وطائرات تعيدهم إلى بلاد «قذرة» قدموا منها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"