«بيت القفل» نموذج أصيل للعمارة الوقائية

يجسد قدرة الإنسان على التكيف
03:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
مسقط «الخليج»:

الإنسان هو أحد أقدر الكائنات على التكيف مع الظروف، وعُرف عنه قدرته على التأقلم وابتكار الحلول للعيش ضمن ظروف قاسية للغاية. ولعل أبرز الأدلة على ذلك، النظام العمراني المبتكر الذي انتشر قبل مئات السنين في شبه جزيرة مسندم ذات الطبيعة الجبلية القاسية، حيث عمد الأجداد إلى بناء بيوتهم في التجاويف الصخرية وأعالي الهضاب بعيداً عن السيول والأنواء القاسية وأمواج البحر، التي قد تتسبب في خراب ما جمعوه طوال أشهر من تمور وحبوب.

هذا النظام العمراني عُرف لدى القدماء باسم «بيت القفل»، وينتشر بمحافظة مسندم الجبلية في سلطنة عمان، ويمثل نوعاً خاصاً من العمارة يدل على مدى براعة الإنسان القديم في التأقلم مع ظروف الطقس والحياة، وكيفية تطويع الطبيعة من حوله لتتناسب واحتياجاته الأسرية.

وتكثر بيوت القفل في هذه المحافظة الشمالية من سلطنة عمان، وأكبر تجمع لها في منطقة تدعى رأس الجيب بقرية الرحيبة بولاية خصب، كما تم بناء نموذج منها في حصن خصب ليتعرف إليها السائح والزائر عن قرب.

ويعود سبب تسمية هذا النوع من البيوت بهذا الاسم، لوجود نظام أقفال خاصة بكل بيت قبل أن يخترع الإنسان نظام القفل الحديث ذي المفتاح التقليدي. ويحوي كل واحد من بيوت القفل نظام إغلاق عبارة عن قفلين يصممان بشكل خاص، بحيث يتمكن صاحب البيت فقط من التحكم فيهما وفتح البوابة الرئيسية للدخول.

وكان الهدف من ذلك حماية مخزون الأسرة من التمور والحبوب والمحاصيل الأخرى، حين تغادر في فصل الصيف إلى السواحل لتمارس مهنة الصيد.
أبدع الإنسان الذي عاش في هذه المنطقة في تصميم وهندسة هذه البيوت واختيار المواد المناسبة لبنائها والمواقع الآمنة لإشادتها بعيداً عن مخاطر السيول والأودية ومناطق الانهيارات الصخرية.
وكان هذا البيت بمثابة الملجأ للأسرة، عدا كونه مخزناً لطعامها الذي كانت تضعه في أوانٍ فخارية كبيرة تطلق عليها «الخرس» وكانت تنقل إلى البيت في المراحل الأولى من عملية البناء، كونها أكبر حجماً من مدخل الباب مما يجعل من غير الممكن نقلها خارج البيت بعد الانتهاء من بنائه.
عادة ما يتكون بيت القفل من غرفة واحدة، غالباً تكون مستطيلة الشكل وبقياسات مختلفة تبنى باستخدام الصخور المتوافرة في الموقع، وهي غالباً من الصخر الأحمر الصلد المسمى «الصفاة». وتنطلق أعمال البناء بحفر الأرض على قياس الغرفة المطلوبة وبعمق لا يقل عن متر واحد، وقد تستخدم التجاويف الصخرية والكهوف بديلاً عن الحفر.
بعدها تُرص الصخور على شكل جدار داخلي للحفرة وتغطى بطبقة سميكة من الطين الممزوج بالتبن يدعى «التبار». وعند وصول الجدار إلى مستوى سطح الأرض تبدأ عملية زيادة سمكه باتجاه الخارج ليصل في بعض الأحيان إلى سماكة متر ونصف المتر. ويستمر البناء حتى الوصول إلى ارتفاع متر ونصف المتر عن الأرض، ليكون من الداخل بارتفاع مترين ونصف المتر، أي يكفي لحركة الإنسان البالغ بسهولة.
ترتب الصخور على شكل طبقات متساوية متفاوتة الأقطار تتراوح بين نصف المتر والمتر، بحيث تُصف هندسياً لعدم ترك فراغات بينها إلا قصداً بهدف التهوية. وتُترك فتحة واحدة للباب بارتفاع متر، بحيث تسمح لأصحاب البيت بالدخول زحفاً وتقلل من عامل التبادل الحراري بين الداخل والخارج إلى الحد الأدنى.
أما باب البيت فيصنع من خشب السدر بسماكة 15 إلى 20 سنتيمتراً مع لفه بطوق من رقائق الحديد لتزداد متانته وقوته في وجه الطامعين أو عوامل الطقس السيئة.
وتُستخدم في السقف جذوع شجر السدر أو السمر التي تقطع في موسم معين تكون فيه في أصلب حالاتها. وهذه الجذوع ترص إلى جانب بعضها بعضا في حواف الجدران ال4 للغرفة، وتمتد إلى خارج حدود الجدار وتسمى «قشاع». وتغطى هذه الجذوع بورق أشجار «السخبر» التي تمتاز بقدرتها على طرد النمل الأبيض والحشرات الأخرى التي يمكن أن تهدد البيت. وفوق أوراق الأشجار توضع طبقة إضافية من «التبار» لحمايته من تسلل مياه الأمطار، وتُترك تجاويف في السقف بين الجذوع وفي الجدران الداخلية بين الصخور لتكون بمثابة الأرفف التي تستخدم لحفظ الأمتعة والسلاح.

حماية معقدة

يمتاز باب بيت القفل بقفله السري الذي لا يتمكن من فتحه إلا صاحب البيت الذي بناه بيديه، وعادة ما يكون مزدوجاً، أي عبارة عن قفلين وليس واحداً. الأول هو المزلاج ويكون مثبتاً من الداخل، ويستطيع صاحب البيت فتحه وغلقه من الخارج بطريقة يستخدم من خلالها ما يسمى «العلق» وهي عبارة عن قطعة معدنية طويلة تكون بقياس وانحناء معين، وتكون مقوسة بحيث يمكنها تحريك المزلاج من خلال فتحات به معروفة العدد والمواقع لصاحب البيت فقط.
أما الأداة الثانية فتسمى «المكذبة» نظراً لقدرتها على تكذيب من يدعي أنه صاحب البيت لعدم تمكنه من فتحها، و«المكذبة» عبارة عن قطعة خشبية توضع أسفل الباب من الداخل، وتكون مستقرة في حفرة تحت الباب مباشرة ويظهر جزء منها للأعلى لمنع فتح الباب، ويحركها صاحب البيت ويخرجها من الحفرة بطريقة لا يعرفها إلا هو وبواسطة عصى بطول معين مربوطة بحبل، وهو السر في فتح وقفل البيت، ولهذا أطلق عليه مسمى «بيت القفل» الذي يرفض أن يدخل أي شخص عدا صاحبه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"