“عُمْر في العاصفة” وحياة توزعت في المنافي

سيرة أحمد عباس صالح التي صدرت عقب رحيله:
13:23 مساء
قراءة 7 دقائق

بعد غيبة طويلة عن الوطن تجاوزت الثلاثين عاما أغلبها كانت نفيا اختياريا سواء في العراق أو لندن، عاد الكاتب أحمد عباس صالح الى القاهرة، وقضى أربع سنوات منذ العام 2004 يحاول التعرف الى ما فاته ويتأقلم قدر الامكان مع الأوضاع الجديدة لينعم بفترة قصيرة من الهدوء ويستعيد ما فاته، الا أنه تعرض منذ شهور قليلة لأزمة قلبية أدت الى وفاته، وللأسف لم يلتفت الكثيرون لهذا الرجل الذي لعب دورا بالغ الأهمية في الحياة الثقافية والسياسية والفكرية العربية عدة عقود، ومع ذلك فقد مر خبر رحيله دون أن ينتبه اليه أحد تقريبا.

أخيرا، وبعد رحيله، أصدرت هيئة الكتاب المصرية آخر كتبه وربما أكثرها أهمية وكشفا وهو سيرته الذاتية، عُمْر في العاصفة التي اقترب عدد صفحاتها من أربعمائة صفحة من القطع الكبير وببنط صغير جدا وتوضيب سيئ لتستوعب الصفحة أضعاف ما يمكنها أن تستوعبه لو اهتم الناشر بأن يصدر كتابا معتنى به شأن سائر كتب الهيئة.

اذا كان الراحل قد عرف جيدا بوصفه صاحب الكتاب الشهير اليمين واليسار في الاسلام ورئاسته لتحرير مجلة الكتاب عدة عقود، فإن سيرته الذاتية تزيح طبقات وطبقات من الركام والغبار عن أكثر من ثلاثين عاما من تاريخ الأمة بأحداثها ووقائعها ورجالها ونسائها وثقافتها وصراعاتها المتواصلة. ولما كان الرجل قد كتب سيرته في آخر أيامه دون حسابات أو مجاملات، فإن عمله كان جسورا شجاعا وصادقا خصوصا عندما يتحدث عن لحظات ضعفه وانكساره.. بالصدق نفسه الذي يتحدث به عن الآخرين من معاصريه.

صاحبنا ابن مدنية.. قضى أغلب سنوات عمره قبل المنفى في المربع الذي شمل عابدين والناصرية والسيدة زينب والمنيرة في قلب القاهرة، ولد العام 1923 حيث كانت مصر تموج بحركة سياسية نشطة بعد ثورة 1919 وتردد في البداية على مقار الأحزاب الموجودة مثل حزب الوفد والأحرار الدستوريين. ويتذكر بقوة تلك اللحظات المبهجة حيث كان يصلي الجمعة في جامع فاضل بالجماميز ويستمع للشيخ محمد رفعت الذي كان يتلو كل جمعة سورة الكهف، وكان حريصا على أن يذهب مبكرا ليجلس بجوار المقعد العالي الذي يتربع عليه الشيخ رفعت ليكون قريبا من الصوت.

كان يكتب القصة القصيرة، كما توثقت علاقته بعدد من الأصدقاء الذين تعرف إليهم ومن أهمهم الراحلون شكري عياد وزكريا الحجاوي ويوسف الحطاب وبدأت قصصه تعرف طريقها للنشر في جريدة الكتلة.

من جانب آخر كان صاحبنا الابن الأكبر لأسرة من الطبقة الوسطى ومكونة من عشرة أبناء، خمسة من البنين ومثلهم من البنات، وكان والده يملك دكانا لخياطة البدل، وعصفت الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينات بهذه الأسرة وأشهر أبوه افلاسه وعجز عن إلحاقه بالمدرسة الثانوية.

وانتهى الأمر لأن يعمل مساعدا لمحام أجنبي في شركة للتأمين العام 1947. في تلك الفترة أيضا عرف طريقه الى كازينو أوبرا، وهو بدوره كان واحدا من أشهر المقاهي الأدبية بسبب الندوة الأسبوعية التي تعقد كل يوم جمعة ويشارك فيها نجيب محفوظ وعادل كامل وغيرهما، الا أن الظروف قد تعثرت بأسرته بشدة وأصبح هو العائل الوحيد لها.

ولعله لهذا السبب حاول أن يبحث عن مورد آخر، وكان صديقه يوسف الحطاب (الذي أصبح فيما بعد من أشهر وأهم مخرجي الاذاعة أيام مجدها) يعمل في الاذاعة وأخرج له عددا من التمثيليات التي كتبها، كما شارك أيضا في اصدار مجلة الأديب المصري مع مفيد الشوباشي ولويس عوض ومحمد مندور ونعمان عاشور.

وبسبب مزاح ثقيل أكثر من اللازم من بعض أصدقائه حول شهادته الدراسية، اتخذ قرارا بدخول الجامعة، وكان عليه أولا أن يحصل على شهادة الثقافة العامة، وحصل عليها بالفعل في عام واحد، ثم واصل ليحصل على الثانوية العامة في العام التالي بل ونال درجات متقدمة أهلته لدخول الجامعة مجانا، وبالفعل دخل كلية الحقوق، واستطاع أن يلتحق بعمل اداري عن طريق أحد أقربائه كسكرتير صحافي لشيخ الأزهر.

وفي أعقاب الثورة، كان صاحبنا يعرف السادات جيدا فقد سبق له أن التقاه مرات عديدة على مقهى عبدالله، كما كان يلتقي بعدد آخر من المثقفين من ضباط الجيش.

أما أول صدام بين صاحبنا وبين الثورة فلم يكن له ذنب فيه، لكنه كاد يدخل السجن وربما تعرض للاعدام لولا جمال عبدالناصر كان صاحبنا من أهم كتّاب التمثيليات في الاذاعة آنذاك، وطلب منه مدير التمثيليات السيد بدير أن يكتب تمثيلية عن حادث 4 فبراير 1942 وأذيعت بالفعل يوم الخميس 4 فبراير 1954 وهو يوم يشهد نسبة استماع استثنائية لأنه كان مقررا أن تغني أم كلثوم في حفلة يحضرها ضباط الجيش بمناسبة عودتها من رحلة علاج طويلة خارج البلاد.

أخرج التمثيلية يوسف الحطاب، وفي اليوم التالي لاحظ صاحبنا أن المخبرين يراقبونه سواء في الاذاعة أو في جريدة الجمهورية التي يعمل فيها، وعاش عدة أيام مهددا فالجميع يتجنبونه والمراقبة تشتد ولا أحد يرشده حتى علم من حسين فهمي وفي مكتبه أن هناك تقريرا كتب عن التمثيلية مضمونه أن صاحبنا ضليع في مؤامرة دبرها اليساريون بانتهاز فرصة اليوم الذي يحتشد المصريون فيه لسماع أم كلثوم فتذاع هذه التمثيلية التي تشجع العمال على الاضراب وتحضهم على التظاهر، وخصوصا عمال كفر الدوار، الذين أعدم منهم عاملان منذ فترة قصيرة فتشتعل كفر الدوار وتنتقل المظاهرات الى المدن العمالية الأخرى حسبما كتب صاحبنا.

وفي مكتب حسين فهمي في جريدة الجمهورية، تقرر ألا يغادر أحمد عباس صالح ويوسف الحطاب المبنى الا بعد التحقيق، وبالفعل حددت اقامة صاحبنا وظل منتظرا التحقيق من الحادية عشرة صباحا وحتى الثالثة من فجر اليوم التالي، حيث استدعي الى حجرة السادات في الجمهورية وجرى أغرب تحقيق يمكن تصوره الى جانب السادات وصلاح سالم وعدد آخر من ضباط الثورة كتب صاحبنا:

لست أذكر بالضبط كم استغرق هذا الاستجواب، ربما قيل لي انه استغرق ساعات لكنه لم يستغرق في الغالب أكثر من عشرين دقيقة، وأثناء جدالي ودفاعي عن نفسي وأنا أواجه صلاح سالم شعرت بأن خطرا يتهددني خلف رأسي حتى انني شعرت بأن شعر رأسي يقف وأن عليّ أن أنظر خلفي سريعا حتى أقفز بعيدا عن الخطر، وهنا رأيت الرجل الذي يجلس على حافة الكنبة خلفه ويتكئ بذراعه على جانب الكنبة، كان مائلا الى الأمام يصغي بانتباه وكان ذا عينين لهما لون غريب بين الأصفر والرمادي، وعندما واجهت عيناي عينيه انصرف عني ولوح بيده لصلاح سالم الذي قال لي اتفضل امش. ولم يكن هذا الشخص الا جمال عبدالناصر.

ومع أنه بدا لضباط الثورة أن صاحبنا بريء وإلا لما صرفوه، الا أنه تلقى في اليوم التالي خطاب فصله من العمل، كما علقت لافته كبيرة على الباب الخارجي لمبنى الاذاعة بمنعه من الدخول!

وهكذا أغلقت الأبواب أمامه وعمل مع أحمد بهاء الدين الذي كان صديقا لصاحبه رئيسا لتحرير روزاليوسف. وطلب منه بهاء أن يعمل معه في روزاليوسف لكن صاحبنا كان ممنوعا من العمل رسميا في الجمهورية، ونصحه بهاء بأن يستأذن من السادات الذي استأذن من عبدالناصر ووافق الأخير!

ومن روزاليوسف انتقل صاحبنا مع عدد من الصحافيين والرسامين لتأسيس مجلة صباح الخير التي كانت فتحا جديدا لصحافة جديدة غير مسبوقة.

مازالت سيرة الراحل أحمد عباس صالح تحفل بالكثير، فعندما بدأ التفكير في انشاء التنظيم الطليعي السري (وهو تنظيم لطليعة الاشتراكيين يعمل تحت الاشراف المباشر لجمال عبدالناصر ومعه عدد من اليساريين الرسميين) فوتح صاحبنا في الانضمام له وانضم بالفعل حيث كان يرأس تحرير مجلة الكاتب، وعلى الرغم من ذلك فسرعان ما أطيح به مع عدد آخر من كبار الصحافيين والكتاب في أعقاب صراع اندلع بين عبدالحكيم عامر وجمال عبدالناصر وتم نقله موظفا الى احدى شركات القطن ونقل عبدالرحمن الخميسي الى شركة أحذية؟

ضاق الخناق على صاحبنا فاضطر للهجرة الى العراق والعمل أستاذا في معهد المسرح في بغداد، عدة سنوات.

في العراق التقى صاحبنا بزعيم حزب البعث ميشيل عفلق الذي كان شبه مسجون في العراق، وسرعان ما عقد صداقات مع عدد من أركان النظام مثل طارق عزيز وغانم عبدالجليل، وكذلك مع كتاب ومفكرين مثل د. صلاح خالص وعبدالرحمن منيف. ثم: راحت الأمور تسوء في العراق يوما وراء يوم حتى انتهز صدام حسين الفرصة وانتهى من أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية وتولى هو الرئاسة ثم قام بتصفية كل العناصر التي كانت تؤازر مشروع الوحدة مع سوريا ولا تريد تصفية البكر.

وراح صاحبنا يبذل جهوده هنا وهناك ليرحل الى لندن دون جدوى حتى لجأ لميشيل عفلق زعيم حزب البعث الذي توسط له لدى صدام حسين ووافق الأخير، وبالفعل وصل صاحبنا لندن في أول أيام ديسمبر 1981 كملحق صحافي في السفارة العراقية، واكتشف على الفور أنه ليس عملا حقيقيا لأن الملحق (الحقيقي) نزار الحديثي الذي أصبح وزيرا للخارجية فيما بعد كان يمارس عمله بالفعل، كما أن المرتب كان ضئيلا جدا.

لندن اذن هي المحطة الثانية في حياة المهاجر، عاش خلالها قرابة أكثر من عقد من السنين وتوقف خلالها مرتبه الذي كان يتقاضاه من السفارة العراقية.

ولم ينقذه الا محمود السعدني الذي كان مهاجرا الى لندن آنذاك وزار صاحبنا في بيته وعندما علم بالمشكلة تحدث مع رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط عثمان العمير، واتصل الأخير بصاحبنا وبالفعل عمل كاتبا بالشرق الأوسط.

تمضي الأيام بصاحبنا، وتتغير المنافي الاختيارية من وقت لآخر، لكن حلم العودة الى الوطن يظل مسيطرا عليه، وفي العام 2004 وصل الى مطار القاهرة.

أخيرا صدر هذا الكتاب بعد أن وارى الثرى كاتبنا الراحل أحمد عباس صالح ولم يقدر له أن يشهد صدوره، غير أن الأكثر فداحة أن يمر هذا الكتاب الوثيقة دون أن ينال صاحبه ما يستحقه لمجرد أنه غاب عنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"