الحمامة القاتلة

ليس إلا
13:23 مساء
قراءة دقيقتين

لا تملك، أحياناً كثيرة، القدرة على توصيف مشاعرك وأنت أمام مشهد فيه من السخرية والتهكم الكثير، وفيه من التراجيديا المحزنة ما يؤشر إلى مدى ما يمكن أن يصل إليه الرهاب المرضي لدى الإنسان، والأغرب أن يكون مصدر هذا الرهاب كائنات ضعيفة وجميلة ترمز إلى الأمان والسلام. وربما هذا بالضبط ما أراد قوله لنا (باتريك زوسكند) في مؤلفه الذي يبدو أنه اشتهر على نطاق واسع. القصة تدور حول (جوناثان نويل) الذي تجاوز الخمسين، والجالس الآن يراجع ذكرى العشرين سنه الأخيرة من عمره وقد أمضاها من دون أحداث. لقد (عاشها مطمئنا إلى مستقبل لن يجري له فيه أي شيء جوهري حتى يحين الأجل). كان يكره فيها الأحداث التي تزلزل التوازن الداخلي وتحدث (خللا بنسق الحياة الخارجية). إلا أن الأمور في الحياة غالبا ما تسير على عكس ما يتمناها المرء. ما الفجيعة التي حدثت ل(جوناثان) في ذلك اليوم الأسود الذي لا يريد أن يتذكره وهو العسكري الجريء الذي تدرب على المواجهة؟. يصف لنا الكاتب بطله (جوناثان) عندما أراد الخروج من غرفته صباحا إلى الحمام المشترك في (الكوريدور) ليقوم بطقوسه المعتادة قبل ذهابه إلى العمل: (وكانت ساقه قد بدأت بالحركة، عندما رآها. كانت جالسة أمام بابه، لا تبتعد عن العتبة عشرين سنتيمترا، ينعكس عليها الضوء الشاحب المتسلل من النافذة. كانت قابعة بقائمتيها الحمراوين من ذوات المخالب، بأرياشها الرصاصية الزلقة على بلاط الممر الأحمر حمرة دم الثور، تلك الحمامة. أدارت رأسها وبحلقت في جوناثان بعينها اليسرى. كانت تلك العين، ذلك القرص الصغير، المدوَّر، البني بمركز أسود، مرعبا. كانت مثل زرٍّ خيط إلى ريش الرأس، دون أهداب، عارية، متوجهة بوقاحة نحو الخارج ومفتوحة على وسعها، بيد أن فيها شيئا ماكرا متحفظا، وهي في الوقت نفسه غير مغشية وغير مفتوحة، جامدة كعدسة الكاميرا، التي تبتلع كل الضوء الخارجي ولا تشع بشيء من داخلها. لم يكن في العين بريق، لم يكن فيها وميض، لم تكن فيها شرارة حياة. كانت عيناً لا ترى وتبحلق في جوناثان). ويضيف في لحظة هلع: (.. سيان إن نقلت الحمامة ثقلها من قائمة إلى أخرى، إن نفشت ريشها. سرت رعشة قصيرة في جسدها. انغلق جفنان صغيران على عينها، جفن من الأسفل وجفن من الأعلى، لم يكونا جفنين حقيقيين، بل أقرب إلى غطاءين مطاطيين، ابتلعا العين كشفتين طلعتا من العدم. اختفت العين هنيهة. فارتعش جوناثان خوفا، وقف شعره فزعا، فقفز متراجعا إلى الغرفة مغلقا الباب قبل أن تفتح الحمامة عينها من جديد. أول ما خطر على باله كان أنه سيعاني جلطة قلبية أو دماغية أو انهيارا في الدورة الدموية وفكر: إنك في السن الملائمة، لهذا كله. اقتلها، تخلص منها.. لا، لا تستطيع قتل ذبابة، ربما تقتل ذبابة أو حلزونا أو خنفساء صغيرة، لكنك لا تستطيع قتل شيء حار الدم يزن رطلا، كالحمامة. مستحيل، لا يمكن لإنسان أن يعيش في بيت تسكنه حمامة. إنها تجسيد الفوضى والخلل).

لا يموت (جوناثان) خوفا ولا ينتقم من الحمامة التي (عفت) عنه وطارت.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"