مركز الحرف الإماراتية.. تاريخ تغزله النساء

أيادٍ ماهرة تحافظ على تراثها
00:57 صباحا
قراءة 5 دقائق
الشارقة:أمل سرور

هنا فقط، وعلى تلك البقعة من أرض عاصمة الثقافة الإسلامية والسياحة العربية، تقف وجهاً لوجه أمام التراث يتجسد أمام ناظريك، عبر أيادٍ نسائية ماهرة استطاعت أن تخط بأناملها فنوناً من الحرف الإماراتية القديمة، وذلك في مركز الحرف الإماراتية الواقع في قلب المنطقة التراثية بالشارقة، حيث يرتفع شعار «التميز والنجاح».
إليهن ذهبت، ومعهن جلست، ولهن استمعت، ووسط جماليات السعف والسدو والتَلي والمعقصة والسرود والخوص، اصطحبنني في رحلة إلى الزمن الجميل نتعرف إلى تفاصيلها في السطور التالية.

ما إن تعبر بوابة مركز الحرف الإماراتية، حتى تتنسم عبق التاريخ، وسرعان ما يتسرب إليك شعور بأنك انتقلت إلى الإمارات قديماً، ويتأكد لديك هذا الإحساس عندما تقع عيناك على تلك اللوحة التي تتوسط المكان، والتي كُتبت عليها قصة هذا المكان، وملخصها أنه كان منزلاً يملكه محمد سالم المزروع، الذي ينحدر من عائلة ذات أصول سعودية ويمنية، انتقلت للإقامة في الشارقة، وهو أحد أهم تجار اللؤلؤ في ذلك الوقت.

المنزل يحيطه سور من الحجر والجص، في جانبه الشرقي يمتد نحو الجنوب، ويتألف من 17 غرفة، 14 منها في الطابق الأول، يتخذ معظمها الشكل المستطيل، وتطل جميعاً على الفناء الخارجي.
عقب وفاته في العام 1977، تبرعت عائلة محمد المزروع بذلك المنزل العتيق إلى إدارة التراث بالشارقة، ليتحول إلى مركز الحرف الإماراتية، حيث تعرض الصناعات اليدوية التي شكلت ملامح اقتصاد مرحلة ما قبل اكتشاف النفط.

إبداعات ناطقة

هنا فقط تدرك أن الموروث الشعبي لا يزال ينطق بإبداعاته على جدران وجنبات مركز الحرف الإماراتية، الذي يسجل عبر أرجائه أعمالاً حرفية ساهمت فيها المرأة بدور كبير. غرف عديدة وُزعت وفقاً لطبيعة الحرفة، فهذه غرفة للسعفيات، وأخرى للدخون والعطور، وثالثة للمدبسة (تلك التي يوضع فيها التمر لاستخراج الدبس منه)، وغرفة المكنز، والمشاغل، وبالتأكيد لم يخلُ المركز من غرفة مخصصة للمكتبة التي تضم عدداً من الكتب التراثية المختصة بالحرف اليدوية، وهناك غرفة العرض الخاصة للأفلام الوثائقية المصورة، والتي تعرض تاريخ إمارة الشارقة، باللغتين العربية والإنجليزية، وأيضاً غرفة عرض الأزياء. يحتوي الطابق العلوي على 3 غرف، بينما نشاهد في المدخل فناء رملياً، تطل عليه بعض فراغات المنزل، الذي تتوزع روائع الحرف التراثية اليدوية بين أركانه.

ملامح الزمن

سينتابك إحساس بأن الماضي يقرع أبواب الحاضر بقوة، فور مشاهدتك هذه المجموعة الزاخرة من الحرف التراثية القديمة، مثل صناعة الدمى والمكاحل والدخون والعطور وقرض البراقع والخياطة والتلي. ليس هذا كل شيء، فهناك إلى جانب ذلك، دورات لتعليم الطهي الشعبي، وسرد القصص الشعبية التي تسمى في التراث الإماراتي ب «الخراريف».
ها هي أيدي الحرفيات تشير إليّ، ترحب بي وجوههن بابتسامة، من خلف البراقع القديمة، وقد حفر الزمن ملامحه على تلك الوجوه ليتأكد أنها لا تزال تحفظ أسرار تراثها. فقط تتابع أيديهن وهي تعمل بسرعة وخفة يُحسدن عليها، لتنسج كل ما يحمل رائحة الأصالة والقِدم.. قطع حالة تأملي للمكان صوت حورية، الفتاة الإماراتية التي استقبلتني بترحاب، قائلة: يضم المركز مخزوناً من الحرف والأعمال الشعبية القديمة كالتلي، وأعمال السعف، وصناعة الدمى، وحرفة النسج، إلى جانب تعلم أصول الطهي الشعبي التقليدي، والتعرف إلى التوابل واستخداماتها وكيفية خلطها.
أضافت حورية: يهدف مركز الحرف إلى تأكيد البعدين العربي والإسلامي للحرف الإماراتية، والعمل على رفع مكانتها، والعمل أيضاً على تسويق المنتج الحرفي الإماراتي، وحفظ ملكيته الفكرية، وذلك يساهم بلا شك في دعم الحرفيين، وتوفير مظلة آمنة لهم ولحرفهم، وإيجاد فرص عمل جديدة. فضلاً عن صقل مهارات الحرفيين الإماراتيين التسويقية، وتدريب الشباب الإماراتي على الحرف الشعبية المهمة، ونشر الوعي حول المنتجات الحرفية وأهميتها، إلى جانب توثيق الحرف والمهن التراثية، والترويج والتسويق لها، والعمل على استحداث الوسائل الكفيلة بزيادة إنتاج الحرفيين، ما ينعكس إيجابياً على دخلهم المادي ومستوى معيشتهم.
وختمت حديثها بالقول: يشهد المركز إقبالاً كبيراً من قبل السياح الأجانب، إضافة إلى المواطنين والمقيمين، إضافة إلى إقبال طلبة المدارس على زيارة المركز أثناء العام الدراسي، خصوصاً أن كتب المناهج الدراسية أصبحت تهتم في السنوات الأخيرة بالتعريف بتراث الإمارات للأجيال الجديدة.

المدبسة والشلبدان

بعد أن أنهت حورية حديثها، قررت الانطلاق لاستكشاف تلك الغرف، لأشهد لحظة ميلاد كل ما هو قديم، دعاني صوتها مرحباً إلى الدخول، فكانت البداية من حيث تجلس في غرفة المدبسة والخوص والشلبدان، أشارت إليّ بالجلوس إلى جانبها ففعلت.. كانت تحتضن بين يديها بعضاً من سعف النخيل، وبمهارة وسرعة كانت تلفها بين أصابعها، فتكون النتيجة أشكالاً من الأواني التي ستعرفني عليها لاحقاً. هي أم عزان، هكذا عرفت نفسها، التي أخذت في الحديث قائلة: بواسطة الخوص كنا نصنع الكثير من الأغراض التي تستخدم في حياتنا اليومية، منها «الشلبدان» الذي كان يستخدم لوضع المكحلة في داخله، مضيفة تصبغ أوراق السعف بطريقة سهلة، عندما نضع الصباغ في قدر من الماء، وتوضع فيه أوراق السعف، ونتركه في الماء نصف ساعة تقريباً، ثم نقوم بتجفيفه بعد الصبغ مباشرة، ونلونه أحياناً بأكثر من لون، منها الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر. أما طريقة الحياكة فتكون بوضع كميات من السعف، تحاك كالضفائر، وتستخدم كميات من السعف المقطع رفيعاً، وتتم إضافة الخيوط عندما تنتهي طولياً، وتستخدم عرضياً مع القطع المستديرة والكبيرة.

نقوش وألوان

من غرفة الخوص إلى السدو، يأتيني صوت أم راشد مجلجلاً وهي تعمل بسرعة وخفة حركة لا مثيل لها، عن السدو قالت: أهم فنون تراثنا، وأهم ما فيه هو صبغ الألوان، وفي الأغلب نستخدم نباتات طبيعية في الصباغة، منها الحناء للحصول على اللونين الأسود والأحمر، والعصفر للون الأصفر المائل إلى الاحمرار، والزعفران والكركم، أما «قرف» الرمان فيمنح لوناً مائلاً للخضرة، كما يتم استخدامه في تثبيت اللون. وتُستخدم «النيلة» وهي عبارة عن قطع من الحجر الطبيعي الجبلي، للحصول على اللون الأزرق، أما العرجون فيستخدم للحصول على اللون البرتقالي.
وعن النقوش تحدثت أم سلطان: من أهم النقوش الضلعة والحبوب والعين وضروس الخيل والمذخر والعويرجان، غير أن أصعب هذه النقوش هي «الشجرة»، إضافة إلى أشكال الثعابين والجمال، وقد تكون الشجرة عبارة عن كتابة لعبارة معينة، وفي الأغلب تكون باللونين الأبيض والأسود.

الغمصة والغمسة

إذا أردت أن تعرف عن فن الحناء (الحنة) الإماراتية، فهنا هو المكان المناسب، قابلنا أم علي التي راحت تطحن أوراقها وتعجنها بزيت الزيتون الدافئ، لتنتج ألواناً مختلفة تتزين بها النساء، تحدثت أم علي شارحة لنا هذا الفن: الحنة هي أوراق نبات «التمر حنة»، أقوم بطحنها وتنعيمها ثم خلطها بالماء الساخن، وأتركها بعض الوقت حتى تتخمر. يمكن أن توضع على الشعر، فتلونه وتجعله أكثر لمعاناً وحيوية، أما إذا كانت لتجميل اليدين والقدمين فتخلط مع الليمون اليابس، الذي يسحق ثم يضاف إليه الماء ليغلي ثم يترك ليبرد ثم تعجن به الحناء، وذلك للحصول على اللون الأسود.

وأضافت: وهناك أشكال متعددة للحناء، منها «الغمصة» و«الغمسة»، وهي طلاء اليد حتى الرسغ، و«الجصة» تخطيط الأصابع بالحناء حتى الكف، و«الروايد» وهو طلاء مفصل واحد من كل أصبع، ومد خط إلى منتصف الكف، و«الجوتي» تخضيب مفصلين من كل أصبع، و«بياريج» مثلثات صغيرة باليد كلها، وهناك أيضاً«البيطات» وهو عبارة عن 4 مثلثات في الكف، بينها نقاط صغيرة، وهناك أشكال أخرى مثل النجوم أو النقاط أو الورد.

أصل الفنون

قبل أن أغادر مركز الحرف الإماراتية، كان الختام عند غرفة التلي، الذي انطلقت أم أحمد في الحديث عنه: هو الأصل وأبو الفنون الحرفية جميعها، كانت تمارسه النساء قديماً، ويتكون من قاعدة معدنية على شكل قمعين ملتصقين من الرأس، بهما حلقتان على إحدى القواعد لتثبيت وسادة دائرية، تلف عليها خيوط الذهب والفضة للتطريز، ولذا نحاول أن نورثه لأولادنا وأجيالنا المقبلة، فهو أحد أهم فنوننا القديمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"