التسامح ضرورة إنسانية

03:24 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي

بعد كل ما نراه من فوضى أطلق عليها صفة لا تتوافق مع اسمها، وبعد كل ما يحدث من قتل للإنسانية وتدمير للمقدرات واستهداف للحضارات وتشويه للمبادئ والقيم، وبعد أن طال الإرهاب دولاً كثيرة وأفراداً، فإنه من الطبيعي أن ينقلب السحر على الساحر، فالفوضى لا تعترف بالمثل والأخلاق، وليس لديها التزام بقرارات واتفاقيات إذا تقاطعت المصالح، وبذلك فإن المستفيدين من هذه الفوضى ربما يربحون حيناً لكنهم في كل الأحوال هم الخاسرون، لأن النفوس الضعيفة تتلاشى أمام المال وتصغر أمام الإغراءات الدنيوية، لكن هذه النفوس تقرب الحطب من النار وتصب الزيت على اللهب، وهي نفوس لا تعرف التسامح ولا تسعى إليه.

يقول جواهر لال نهرو : «النفوس الكبيرة وحدها تعرف كيف تسامح» إذاً، فالتسامح لم يعد في هذا العصر المتناحر خياراً بقدر ما هو ضرورة إنسانية من أجل إيقاف نزيف البشرية وعلى كل الصعد، فالعالم في ظل تصاعد وتيرة الإرهاب ونمو الحقد والكراهية بين الشعوب، وبروز الطائفية كوسيلة مثلى وطريقة ناجعة وسريعة، ينذر بدمار شامل لمقدرات الأمم، وبذلك، فإنه ربما تزيد حالات الفقر وتتسع مساحة الأمية، لتتراجع إلى عصور سحيقة لا تعترف إلا بلغة الغاب، والدكتاتورية التي يسيطر فيها القوي على الضعيف، ويلتهم خيراته، وتعود الأغلبية لتتحكم، وتحكم باسم الديمقراطية وتهمش القدرات وتختفي الكفاءات.

إن الشعوب تدرك بالفطرة أنها في حاجة ماسة إلى التسامح والعفو عن الغير وإيجاد الأعذار للمخطئ، وهي مثل رسختها الفطرة وتوارثتها الأمم التي عرفت الأمن من خلال معرفتها بقيمة التسامح الجمالية.

هناك مثل يقول: «في العفو لذة لا نجدها في الانتقام» هذا الانتقام يدفع ثمنه الإنسان العادي من خلال سلبه خيراته ومقدرات بلده لتصرف على آلات الحرب والدمار، هذه الحرب التي يمكن التحكم في بدايتها، ويصعب التحكم في نهايتها، وبذلك فإن العدالة تتماهى وتتلاشى في ظل ما نراه من زلازل دمرت مدن الأخلاق، وألغت دور التسامح، مع أن العدالة تجعل القائد آمناً من خلال ما قدمه من أمن وتسامح ومحبة للأفراد، وهو ما صدر عن ذلك الرجل الذي رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ينام قرير العين دون حراسة فقال له: «عدلت فأمنت فنمت يا عمر» ويقول نيلسون مانديلا الذي حارب نظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا وضحى بسنين طويلة من عمره في منطقة معزولة مظلمة من أجل أن يتحقق السلام وينتشر التسامح وتزول العنصرية: «الشجعان لا يخشون التسامح من أجل السلام» هذه الشجاعة التي عدلت المصالح معناها، لتكون في القدرة على الانتقام والقتل والتهجير وسلب الحقوق وإعادة المدن المتحضرة إلى عصور النهب والغزوات والفوضى التي عانتها الصحراء، وأريقت عليها الكثير من الدماء، وضاعت الكثير من الحقوق، وأصبح الضعيف بدون سند أو حماية تقيه من القوي، فهو مستباح للذي يتفوق عليه في المال والقوة والسطوة.

إن تحقيق التسامح لا يأتي إلا من خلال ترسيخه في المجتمع كقيمة حقيقية، ووسيلة عظيمة في عملية بناء الذات والشعوب، فاضطهاد الضعيف وتهميش المبدع الحقيقي، والخوف من الناجح، وتغليب المصلحة الخاصة على العامة لا تنتج مجتمعاً متسامحاً، بل تضعف ثقافته وتقدم منتجاً لا يرتقي إلى الطموحات التي تنشدها الأمم من أجل أن تقدم مشروعاً إنسانياً عظيماً، يستظل تحت سقف المحبة والإنسانية والنقاء والتسامح وعدم الحقد على الغير وحسده على ما أعطاه الله من نعم، لترتاح النفس وتشعر بقيمة السعادة وحقيقتها، هذا المعنى الذي جسده بيت الشافعي :

«لما عفوتُ ولم أحقدْ على أحدٍ .......أرحتُ نفسي من هَمِّ العداواتِ»

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"