الإمام مسلم.. المولع بالعلم منذ الصغر

قامات إسلامية
02:00 صباحا
قراءة 4 دقائق
بقلم: محمد حماد

في منتصف القرن الثاني الهجري كانت معظم المؤلفات تضم الحديث النبوي الشريف وفتاوى الصحابة والتابعين، كما هو واضح في كتاب «الموطأ» الذي ضم ثلاثة آلاف مسألة وسبعمئة حديث، وقد أودعه الإمام مالك أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه، ورتبه على أبواب الفقه، ثم عني الحفاظ من بعده بمعرفة طرق الحديث وأسانيده المختلفة، وقاموا بإفراد أحاديث النبي، صلى الله عليه وسلم، في مؤلفات خاصة بها، فظهرت كتب المسانيد التي جمعت الأحاديث من دون فتاوى الصحابة والتابعين، وذهبت إلى جمع الأحاديث التي رواها الصحابي تحت عنوان مستقل يحمل اسمه، ويعد مسند أحمد بن حنبل أشهر كتب المسانيد وأوفاها، فضلاً عن كونه أكبر دواوين السنة.
حتى إذا كان القرن الثالث الهجري، نشطت حركة الجمع والنقد وتمييز الصحيح من الضعيف، ومعرفة الرجال ودرجاتهم من الضبط والإتقان وحالهم من الصلاح والتقوى أو الهوى والميل، ولذا ظهرت الكتب التي رأى أئمة الحفاظ أن تجمع الحديث الصحيح فقط وفق شروط صارمة ومناهج محكمة، وجاء محمد بن إسماعيل البخاري، إمام المحدثين في عصره، فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه من دون ما اختلفوا فيه، وكان البخاري أول من صنف في الحديث الصحيح. ثم جاء من بعده «صحيح مسلم»، كأحد أهم كتب الحديث النبوي عند المسلمين من أهل السنة والجماعة، ويعتبرونه ثاني أصح الكتب على الإطلاق بعد صحيح البخاري.

الأحاديث الصحيحة فقط

احتوى «صحيح مسلم» أحد أهم كتب الجوامع على جميع أبواب الحديث من عقائد وأحكام وآداب وتفسير وتاريخ ومناقب ورقائق وغيرها، وتوخى فيه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ألّا يروي إلا الأحاديث الصحيحة التي أجمع عليها العلماء والمحدثون، فاقتصر على رواية الأحاديث المرفوعة وتجنب رواية المعلقات والموقوفات وأقوال العلماء وآرائهم الفقهية إلا ما ندر، وقد استغرق جمعه وتصنيفه قرابة خمس عشرة سنة، وجمع فيه أكثر من ثلاثة آلاف حديث بغير المكرر، وانتقاها من ثلاثمئة ألف حديث من محفوظاته.
هو مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري، ويكنى بأبي الحسين، وهو من قشير وهي قبيلة من العرب معروفة، ولد سنة 206ه (821م) على أرجح المؤرخين، وكانت ولادته في نيسابور تلك المدينة العريقة التي اشتهرت بازدهار علم الحديث والرواية، وكان والده الحجاج بن مسلم القشيري أحد محبي العلم، وأحد من يعشقون حلقات العلماء، فنشأ الفتى وتربى في هذا الجو الإيماني الرائع، وبدا من صغره شغوفاً بالعلم مجداً في طلبه محباً للحديث النبوي، فسمع وهو في الثامنة من عمره من مشايخ نيسابور، قال الذهبي: «وأول سماعه في سنة ثماني عشرة من يحيى بن يحيى التميمي، وحج في سنة عشرين وهو أمرد».

جهود مباركة

بارك الله في جهود الإمام مسلم في طلب العلم وأتت ثمارها، وبارك الله له في وقته فحصل من العلم ما لا يجتمع للنابغين، حيث رزقه الله ذاكرة لاقطة، وعقلاً راجحاً، وفهماً راسخاً، وقد لفت ذلك أنظار شيوخه، فأثنوا عليه وهو لا يزال صغيراً غض الإهاب، فتنبأ له شيخه إسحق بن راهويه في نيسابور حين رأى دأبه وحرصه فقال: «أي رجل يكون هذا؟»، وقال شيخه محمد بشار: «حُفّاظ الدنيا أربعة، أبو زرعة الرازي بالري، ومسلم بنيسابور، وعبد الله الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى».
أثنى أئمة الحديث على الإمام مسلم ونعتوه بأوصاف الإجلال والإكبار، ومن أجمع الأوصاف ما ذكره القاضي عياض بقوله: «هو أحد أئمة المسلمين وحفاظ المحدثين، ومتقني المصنفين، أثنى عليه غير واحد من الأئمة المتقدمين والمتأخرين، وأجمعوا على إمامته وتقدمه وصحة حديثه، وتمييزه وثقته».
كان الإمام مسلم بن الحجاج من المكثرين في كتب الحديث، وفي مختلف فنونه رواية ودراية، وقد وصل إلينا منها عدد ليس بالقليل، وهذا شاهد على مكانة الرجل في علم الحديث، وهي مكانة لم يصل إليها إلا الأفذاذ من المحدثين أصحاب الجهود المباركة في خدمة السنة، وممن رزقوا سعة الصيت ورزقت مؤلفاتهم الذيوع والانتشار.
ومن مؤلفاته: الكنى والأسماء، طبقات التابعين، رجال عروة بن الزبير، المنفردات والوجدان، وله كتب مفقودة، منها: أولاد الصحابة، الإخوة والأخوات، الأقران، أوهام المحدثين، ذكر أولاد الحسين، مشايخ مالك، مشايخ الثوري ومشايخ شعبة.

على خطى البخاري

حذا الإمام مسلم في تأليف مسنده الصحيح، حذو الإمام البخاري في نقل المجمع عليه، وحذف المتكرر منه، وجمع الطرق والأسانيد، وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه، ومع ذلك لم يستوعب الصحيح كله، وقد بدأ تأليف الكتاب في بلده نيسابور بعد أن طاف بالبلاد وقابل العلماء وأخذ عنهم، وكان عمره حين بدأ عمله المبارك في هذا الكتاب تسعاً وعشرين سنة، واستغرق منه خمس عشرة سنة حتى أتمه سنة (250ه، 864م) على الصورة التي بين أيدينا اليوم.
جمع الإمام مسلم أحاديث كتابه وانتقاها من ثلاثمئة ألف حديث سمعها من شيوخه خلال رحلاته الطويلة، وهذا العدد الضخم خلص منه إلى 3033 حديثاً من غير تكرار، في حين تصل أحاديث الكتاب بالمكرر ومع الشواهد والمتابعات إلى 7395 بالإضافة إلى عشرة أحاديث ذكرها في مقدمة الكتاب.

مقارنات

تلقت الأمة بالقبول صحيح مسلم وقرنته بصحيح البخاري، وعدت ما فيهما من الحديث صحيحاً مقطوعاً بصحته، وقارن بعض العلماء بينهما، ومال بعضهم إلى تفضيل صحيح مسلم على نظيره البخاري، لكن الذي نص عليه المحققون من أهل العلم أن صحيح البخاري أفضل من حيث الصحة، وصحيح مسلم أفضل من حيث السهولة واليسر، حيث يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد ولا يقطعها في الأبواب مثلما يفعل البخاري.
وقد اعتنى العلماء بصحيح مسلم وخدموه خدمة عظيمة، فوضعوا له عشرات الشروح، ومن أشهر هذه الشروح: «المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج» للإمام النووي، وقد طبع صحيح مسلم طبعات عديدة، أفضلها التي حققها محمد فؤاد عبد الباقي، ورقّم أحاديثها ووضع لها فهارس تفصيلية.
ظل الإمام مسلم بن الحجاج في نيسابور يقوم بعقد حلقات العلم، التي يؤمها طلابه والمحبون لسماع أحاديث النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان يشغل وقته بالتأليف والتصنيف، حتى إنه في الليلة التي توفي فيها كان مشغولاً بتحقيق مسألة علمية عرضت له في مجلس مذاكرة، فنهض لبحثها وقضى ليله في البحث، لكنه لقي ربه قبل أن ينبلج الصباح.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"