توجه نحو الآخر

02:55 صباحا
قراءة دقيقتين

العالم أصبح قرية صغيرة، والاحتياج إلى التواصل أصبح أكثر إلحاحاً من ذي قبل، وباتت عملية معرفة الآخر ضرورية قدر ضرورة معرفة الذات؛ بل ربما لا تتم العملية الأخيرة، أي تحقق الذات لمعرفتها، من دون معرفة الآخر. والترجمة، في جوهرها، توجه نحو الآخر، أياً كان، واعتراف به، وبوجوده. فهي حوار حضارات، وهو حوار شامل لجميع مجالات المعرفة، علوماً إنسانية وطبيعية. وهي أيضاً، أداة اكتساب وأداة تعبير عن عزم الإنسان/ المجتمع على استيعاب أكبر قدر بعينه، باختياره وإرادته، من حصاد المعارف الإنسانية، التي هي سلاح الإنسان في التطور والمنافسة، والارتقاء، والأخذ والعطاء على المستوى الحضاري، في سبيل تعزيز الوجود.

ويرتبط جوهر صورة الذات لدى الآخر، أو صورة الآخر لدينا، بمقدار معلومات كل طرف عن الآخر، فالعلاقة بين دقة الصورة واقترابها من الحقيقة وقدر المعلومات علاقة طردية، ومن ثم تصبح الترجمة إحدى سبل المثاقفة الإيجابية، وإحدى أهم وسائل التلاقي والتداخل الحضاري، بغية المشاركة الفعالة في إنتاج ثقافة تطمح إلى تكون كونية، لكنها في الوقت نفسه، تحتفظ بخصوصيتها التاريخية ومميزاتها الحضارية. والمثاقفة كضرورة للتعايش، تقوم في أساسها، على الندية الثقافية، والاحترام المتبادل بين الأطراف المختلفة، وعدم اعتبار طرف ثقافي أفضل من آخر، وإن انطوت الترجمة، كشكل من أشكال المثاقفة، على الاعتراف بالقصور الذاتي في الثقافة المترجم إليها «المستهدفة»، وإن لم يكن الأمر كذلك، فما الدافع إلى القيام بالترجمة؟ هذا القصور يدفعنا إلى استقبال الآخر في لغتنا، وبالتالي في ثقافتنا، وهي مسألة يطلق عليها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا «فعل الضيافة».

ويرى البرازيلي باولو أتوني أن الضيافة تتطلب الأخذ في الاعتبار لهجة الآخر، ولا نطلب منه التخلي عن لغته، وكل ما تجسده، فاللغة جسد، ولا يمكن أن يطلب منه التخلي عن جسده، واحترازنا هذا، يعني معرفة الحدود بين الأنا، والآخر، كذلك معرفة الحدود بين اللغات، والنصوص المترجمة.

إذاً، ليست الترجمة نشاطاً ترفياً، أو زائداً، يمكن الاستغناء عنه، وهي ليست مجرد نقل من لغة إلى لغة عبارات مسطورة بين دفتي كتاب، لا تخلق تياراً فكرياً، ولا تدخل في نسيج رؤية الوجود والحياة. ومن ثم تظل عاطلة من الطاقة الدافعة للحراك الاجتماعي. وإنما هي نشاط منوط بتحقيق أهداف عدة، أهمها الإشارة دوماً إلى الخارج، الآخر، فضلًا عن توسيع دائرة الحوار والمعرفة، وتوسيع لدائرة الفعالية، ومن ثم حرية الإنسان والمجتمع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"