نافذة الذات

01:28 صباحا
قراءة 5 دقائق
الشارقة: علاء الدين محمود

لمعارض الكتب في أي بلد في العالم سحرها وطقوسها الخاصة، فهي مناسبة ثقافية واجتماعية تزورها أعداد كبيرة من الجمهور، وتنبع جاذبية هذه المعارض من كونها تحتفي بالثقافة المحلية وتبرز أهم ملامح تراث البلد وعاداته وتقاليده، وتكون هنالك فعاليات نجد فيها الأعمال الفولكلورية التي يتابعها الجمهور بشغف شديد، وهنالك بعض المعارض العالمية التي صارت قبلة للمثقفين ومحبي القراءة وكل أشكال الفنون، فهي ما عادت منصة لعرض الكتب فقط؛ بل مناسبة كرنفالية تأخذ أبعاداً اجتماعية وسياسية إلى جانب الأبعاد الثقافية والفكرية.
إن معارض الكتب هي احتفاء بالذات ونافذة تطل على العالم لتُظهر للآخرين تلك الخصوصية الثقافية التي يمتلكها شعب ما، ومن هنا تظهر عملية التواصل عبر الاهتمام بهذه الخصوصيات، وبالتالي فإن معارض الكتب، خاصة تلك التي أخذت صيتاً وشهرة عالمية ودولية، ليست مناسبة لبيع المؤلفات من كل شكل ولون، ولقاء تعارف وعمل بين الناشرين من أجل عقد الصفقات التجارية. فعلى الرغم من أهمية ذلك، فإن الواقع يتجاوز هذا الشكل الظاهر والمتعارف عليه عنها، فهي تتضمن نشاطاً سياسياً واقتصادياً، ومناسبة تكشف فيها الدولة المنظمة عن عمق حضارتها؛ لذلك فإن معارض الكتب تعد أكبر محفل ثقافي تقيمه الدولة لا يشبهه أي مهرجان آخر في مجال الثقافة، فهو يشمل كل الفنون الإبداعية فتحضر الموسيقى التراثية والحديثة، والفنون البصرية والغناء والشعر، والجرافيك والسينما؛ بل إن بعض المعارض تخصص منشطاً لترجمة الأفلام الأجنبية، لتصبح البرامج المصاحبة والندوات أكثر مركزية من الغرض الأساسي المتمثل في عرض الكتاب.
لذلك؛ فإن معارض الكتب تلعب أدواراً مهمة في خدمة بلادها، فهي تتأثر بالأجواء السياسية والفكرية السائدة عالمياً، وتعلن عن موقفها منه؛ لذلك كانت معظم معارض الكتب العالمية في الآونة الأخيرة تتجه نحو رفع شعارات الإخاء والتقارب بين الشعوب، والتعرف إلى ثقافة الآخر المختلف، ونبذ العنف والدعوة للتسامح بين الأديان والسلام ومحاربة التطرف.

ردهة التاريخ

يقف وراء تأسيس المعرض عمل ممنهج من أجل أن يكون منصة تلعب دوراً حقيقياً في حياة الناس الثقافية والحضارية؛ بل إن بعض المعارض قد تأسست عبر قرارات سياسية من الدولة، وذلك يشير إلى الدور الكبير الذي تلعبه هذه المعارض داخلياً وخارجياً، ولكن من سلبيات ذلك أن بعض الدول تفرض أيديولوجيتها في شكل ومحتوى العرض والبرامج المصاحبة له، ففي عام 2007 على سبيل المثال، شهد معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، وهو أكبر معارض الكتب في العالم، ضجة كبيرة بسبب منع بعض الناشرين الكتالونيين، من الدخول والتسجيل في المعرض بسبب معارضة السياسة الإسبانية الرسمية لأن تكون هناك مشاركة منفردة لإقليم كتالونيا الذي يطالب بالاستقلال عن إسبانيا، وهذا الأمر وجد معارضة كبيرة من قبل الصحف الألمانية التي وصفت قرار المنع بالمتحيز ضد الحرية، كما نجد أن بعض الدول تحجب كتباً تعبر عن اتجاهات فكرية لا تتناسب مع سياستها، وهذا يذكرنا بما كان في أيام الحرب الباردة قبيل سقوط الاتحاد السوفييتي، عندما كانت معارض الكتب تشهد بعضاً من سمات ذلك الزمن، حيث تحجب بعض المؤلفات الغربية في الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، والعكس كذلك صحيح، فإن مؤلفات لينين وتروتسكي وستالين لم تكن تعرض في كثير من معارض الدول الغربية، ولكن على الرغم من ذلك، فإن بعض المؤلفات التي لا تعبر عن الغرب وثقافته لم تكن تحجب في معارض ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، خاصة مؤلفات الفيلسوف الألماني كارل ماركس، وبانتهاء الحرب الباردة أفرج عن كثير من المؤلفات المحجوبة، وشهدت المعارض تحولات كبيرة مع بروز العولمة، ولكن حجب الكتاب أو منعه لم ينته تماماً.

زيارة

إذا كان لابد من تطواف نستمع فيه لقصص معارض كتاب دولية، فلابد من انطلاقة أولى تستصحب واحداً من أهم المعارض التاريخية في عالمنا العربي، وهو معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي تأسس عام 1969، لكنه كان تتويجاً لمحاولات سبقته في إقامة معرض للكتاب يخص مصر، كان من أهمها معرض الكتاب الذي تأسس في مدينة الإسكندرية عام 1894، على يد عدد من التجار وجدوا أن من الضروري قيام معرض وطني للكتاب. وقد أسهمت الحكومة المصرية وقتها في دعمه بالمال، وكان معرضاً يشمل الكتب والمطبوعات. ويقارن كثير من الكتاب بين معرض الإسكندرية ومعرض فرانكفورت الدولي الذي تأسس هو الآخر على يد تجار، لكنه مازال مستمراً بدعم أكبر من الحكومة الألمانية، وشكل معرض الإسكندرية وبعض المعارض الأخرى لبنة وأرضية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يعتبر ثاني أكبر معرض في العالم، وقد احتفل هذا العام بيوبيله الذهبي.
وجاء تأسيس معرض القاهرة للكتاب في وقت كانت فيه شعارات القومية والوحدة العربية أكثر توهجاً وازدهاراً، ليعبر عن تلك الآمال والأحلام، فكان بمثابة مشروع قومي عربي يجمع كل شعوب المنطقة العربية؛ لذلك كان المعرض يمثل احتفالية عربية تعكس ثقافة العرب وتراثهم وطموحاتهم وآمالهم، فقد كان منذ بداياته شعلة أضاءت أرجاء الوطن العربي، وصدحت في أمسياته الشعرية أصوات الشعراء العرب من أمثال: محمود درويش، وسميح القاسم، ونزار قباني، وغيرهم، كما كانت منابره الفكرية مسرحاً لمفكرين كبار من وزن زكي نجيب محمود، ونجيب محفوظ، والعديد من المفكرين المصريين والعرب، وقد استمر المعرض وصار قبلة للعرب والأجانب، حيث يفوق عدد زواره مليوني شخص سنوياً، ويعتبر عيداً للثقافة المصرية.

الأهم

ويعتبر معرض فرانكفورت الدولي في ألمانيا، أكبر وأقدم وأضخم معرض للكتاب في العالم من حيث عدد المؤلفات والمطبوعات المعروضة، والزوار من القراء من مختلف أنحاء العالم، ودور النشر والناشرين، وكذلك من حيث عدد الفعاليات والأنشطة الثقافية المتعددة التي تشمل كل ضروب الإبداع، ويتضمن المعرض أعداداً كبيرة من الوكلاء الأدبيين من كافة أنحاء العالم.
ويعود المعرض إلى عام 1439، وهذا التاريخ له أهميته الكبرى فقد بدأت فيه الطباعة مع المخترع الشهير يوهانس جوتنبرج في بلدة مينز القريبة من فرانكفورت، وحينها فكر ناشرو الكتب المطبوعة في ذلك الوقت في إقامة معرض للإعلان عن كتبهم وإصداراتهم وإنتاجاتهم التكنولوجية التي كانت تعتبر متطورة في ذلك الزمن. وحتى نهاية القرن السابع عشر كان معرض فرانكفورت هو الأهم في القارة الأوروبية، لكن نوره سرعان ما خبا بعض الشيء نتيجة التطورات السياسية والثقافية في مختلف أنحاء القارة خلال عصر التنوير، وأخذ الأضواء منه في عالم النشر والكتب معرض لايبزيج للكتاب، غير أن فرانكفورت استطاعت أن تُحيي مجدها السابق وتنفض عنها غبار السنين عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، وواصلت نشاطها المعهود كما كان في سابق أيامها الزاهية. ويعد المعرض اليوم أهم سوق تجاري للكتب ووسائل الميديا، والحقوق والرخص في جميع أنحاء العالم، ومنذ عام 1950 ظل هذا المعرض يقدم جائزة للسلام، وجائزة لأكثر عناوين الكتب طرافة وغرابة، ويحتفي المعرض بالثقافة الألمانية بشكل خاص، وبرموزها الكبار خاصة في مجال الفلسفة الذي تفوقت فيه، كما يهتم بإبراز الهوية الألمانية وخصوصيتها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"