الابتكار العابر للحدود الاقتصادية القطاعية

22:01 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *

المشروع، أي مشروع، يبدأ بفكرة. وأتذكر أنه قبل حوالي عقدين ونيف كنا نُنشئ فرق عمل Task forces، يتم تشكيلها للعمل على مهمة أو نشاط واحد محدد ومؤقت، في وزارة النفط والصناعة في مملكة البحرين. تقوم هذه الفرق بعملية عصف ذهني لاستنباط أفكار قابلة للتحويل إلى مشاريع صناعية، من خلال العمل على تحويل الفكرة إلى تصور مبدئي لما قبل إجراء الدراسة المبدئية، أو الأولية، لجدوى المشروع (Pre-feasibility study)، قبل البحث عن بيت خبرة لإنجاز الدراسة المتكاملة للمشروع. وغالباً ما تكون هذه الجهة هي منظمة الخليج للاستشارات الصناعية (جويك) التي تأسست عام 1976 بقرار من وزراء الصناعة بدول الخليج العربية، بهدف تحقيق التعاون والتنسيق الصناعي بين الدول الأعضاء، وهي: دولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، والمملكة العربية السعودية، وسلطنة عمان، ودولة قطر، ودولة الكويت، وانضمت إليها الجمهورية اليمنية في العام 2009.

اليوم تطورت هذه المقاربة لابتداع أفكار المشاريع، لتتجاوز أساليب الملاحظة والاستنباط والعصف الذهني، إلى استخدام التطبيقات التكنولوجية الحديثة. كما تخطت مستواها الخفيض الذي انحصر في استنباط الفكرة والبناء عليها، والمقتصرة عادةً على مشروع صغير أو متوسط، أو حتى توسعة المشاريع الكبيرة القائمة، بناءً على دراسة السوق (Market feasibility) التي تساعد مؤشراتها القياسية على اتخاذ قرار التوسعة من عدمه. هي تخطت ذلك لتشمل إقامة المشاريع العملاقة (Megaprojects)، وهي مشاريع نوعية تحويلية (فيما خص هيكلية الاقتصاد).. معقدة وواسعة النطاق، تكلف عادة مليار دولار في حدها الأدنى، وتستغرق سنوات عديدة لتشييدها وتشغيلها؛ وتضم العديد من أصحاب المصلحة من القطاعين العام والخاص، وتؤثر في ملايين الأشخاص. إنما يبقى المليار دولار، ليس معياراً لعملقة المشاريع، فقد يكون مشروعاً عملاقاً في دولة نامية، ميزانيته تدور حول 100 مليون دولار.

دولة الإمارات العربية المتحدة، دولة رائدة على المستوى العالمي في اجتراح واستنباط الأفكار وتحويلها إلى ابتكارات. والأهم من ذلك، السرعة التي تتميز بها في نقل هذه الابتكارات من الورق إلى التنفيذ. فذهبت بعيداً في هذا الاتجاه؛ فهي تبتكر قطاعات اقتصادية بأكملها، كما حدث على سبيل المثال حين عملت فرق اختصاصية فنية، ليل نهار، على تجهيز البنية التحتية للدولة، بسرعة مذهلة، ومفاجأة العالم بعرضها أنها جاهزة لتكون مركز الشرق الأوسط لتوزيع اللقاحات في العالم، لاسيما في الدول النامية. وهو ما يمكن إدراجه ضمن القطاع اللوجستي الأوسع.

مثال آخر هو قطاع الطاقة النووية؛ ومع أنه يندرج ضمن قطاع الطاقة الأشمل، إلا أنه يعتبر في واقع الأمر، قطاعاً جديداً، من حيث انتماؤه لقطاع الطاقات الجديدة (التي تتوسط قطاع مصادر الطاقة التقليدية Conventional energy sources، وقطاع مصادر الطاقة المتجددة Renewable energy sources).

ومثله مثل قطاع الطاقات المتجددة الذي انفردت الإمارات بالسبق على مستوى منطقة الشرق الأوسط بأكملها، بدخوله من أوسع أبوابه (إنشاء شركة أبوظبي لطاقة المستقبل «مصدر»، والفوز بمقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة IRENA)، فإن قطاع الصناعات الفضائية الذي اقتحمته الإمارات، من خلال مشروعها لاستكشاف الفضاء، المعروف باسم مسبار الأمل الذي بُني في مركز محمد بن راشد للفضاء، والذي انطلق في مهمة أولية في 20 يوليو 2020 لاستكشاف كوكب المريخ، يعد ليس فقط قطاعاً جديداً، وإنما قطاع ابتكاري فريد بالنسبة لأقرانه من القطاعات الاقتصادية التقليدية، بما فيها القطاعات المفتاحية في الاقتصاد.

وهنالك فرقٌ بين الاختراع (Invention)، والابتداع أو الابتكار (Innovation). فالاختراع يحيل على اختراع منتَج جديد أو جهاز جديد أو إدخال عملية إنتاجية لأول مرة، كما كان اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر على سبيل المثال. أما الابتداع أو الابتكار، فهو يتعلق بقيام شركة ما أو شخص ما بإدخال تحسينات أو تطوير في منتَج معين أو في عملية إنتاجية أو خدمة إسناد لوجستية قائمة. لما كان ذلك، فلعلنا نحسب، أن ما تفعله الإمارات هو أقرب إلى ال Invention منه إلى الInnovation.

فلماذا لا نرى بلداننا العربية تفعل ما تفعله الإمارات، في سرعة طرح الأفكار التطبيقية والمبادرات القطاعية التي تخلق الفارق باستمرار في النموذج الاقتصادي وتنافسيته العالمية؟

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"