نحو المستقبل.. قفزاً

03:41 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

استمتعنا ونحن صغار بحكايات عن رحلات السندباد وعن جوليفر في بلاد الأقزام ومغامرات علي بابا.. كانت قراءتها أو الاستماع لرواتها متعة لا تعادلها متعة أخرى. ومع ذلك لم يخالجنا شك في أن الحكايات خيالية، وأنها لن ترقى ذات يوم إلى مستوى الواقع. كنا نتسلى ونعلم أننا نتسلى.
أعترف بأنني ما زلت وأنا في هذه المرحلة المثيرة من العمر، أستمتع بحكايات من نوع آخر تماثل في وقعها وتأثيرها عند قراءتها أو الاستماع إلى صانعيها حكايات قرأناها أو استمعنا إلى رواتها ونحن أطفال. ومع ذلك يعكر استمتاعي بحكايات هذه الأيام المخصصة لنا اعتقادي أنها تفتقر إلى البراءة، وأنها لا تصدر بنية الترفيه عنا وأن وراءها أكثر من قصد، وهي على كل حال للكبار فقط.
تناقلت أجهزة الأخبار أن معلمي المدارس في ولاية وست فرجينيا في جنوب الولايات المتحدة قرروا الإضراب. أرادوا الاحتجاج على برنامج صاغته إحدى الشركات؛ بحجة الحاجة إلى دراسة سلوكات هذا القطاع المهم من المواطنين الأمريكيين.
يطلب البرنامج من متطوعين من هؤلاء المعلمين تنزيل تطبيق وظيفته المعلنة متابعة ورصد حالة الصحة العامة للمتطوع. تقرر الإضراب عندما شعر المتطوعون بأن البرنامج يسعى لاختراق خصوصياتهم.
«فالتطبيق المطلوب تنزيله يفرض على المستخدم استيفاء بيانات ومعلومات شخصية جداً وحساسة جداً»، كان هذا الاقتباس بالنص ما بعث به أحد المتطوعين من المعلمين إلى صحيفة «نيويورك تايمز».
في البداية، لم يفهم المعلمون غرض الشركة التي صاغت التطبيق. البرنامج وعنوانه «ج 365»، يسجل لحظة بلحظة خطوات المعلم منذ اللحظة التي يستيقظ فيها من نومه إلى اللحظة التي يعود فيها لفراشه لينام. لا يكتفي البرنامج بهذا؛ بل يطلب من المعلم غرس مقياس إلكتروني تحت مخدات فراش النوم، ليحسب بالدقة الكاملة عدد ساعات نومه، ونوع هذا النوم، وعدد مرات تقلبه في نومه.
تصادف الإضراب والكشف عن تفاصيل هذا البرنامج مع الإعلان عن قرب العمل ببرنامج يلحق بشاشات التلفزيون، مهمته رصد التغيرات التي تطرأ على قسمات وجه المشاهد عند مشاهدته الإعلانات التي يبثها التلفزيون، وكذلك البرامج الإخبارية ومختلف المواد الترفيهية.
يقوم البرنامج إضافة إلى مهمة الرصد بتقديم تفسير في الحال وعلى امتداد اليوم لعواطفنا ومشاعرنا مقابل كُلفة زهيدة للغاية؛ إذ يعفي التطبيق الشركة من مهمة إجراء مقابلات مع عدد لا يحصى من المشاهدين أو عدد غير قليل من المتطوعين، يعفيها أيضاً من تكليف باحثين ومحللين نفسيين واجتماعيين لأداء مهمة التفسير والتحليل.
بعد قليل، ظهر أن وراء الاحتجاج، يوجد سبب آخر؛ إذ تبين أن الشركة التي مقرها وادي السيليكون في ولاية أخرى، تسعى من خلال هذا البرنامج إلى التأثير في سلوكات المعلمين؛ بغرض تغييرها إلى سلوكات تناسب أهدافاً محددة سلفاً. لم يكن خافياً أن استجابة المعلمين للحوافز والغرامات التي وضعتها الشركة تعني التزامهم تغيير سلوكاتهم.
الأمثلة على قدرة هذا البرنامج أو غيره على تغيير سلوك المشاهدين كثيرة. يعني مثلاً لو أن المشاهد يتعين عليه النوم مبكراً، فسوف يقوم البرنامج بإطلاق جرس تنبيه ثم يوقف الإرسال؛ بل يمكن للبرنامج القيام بذلك أيضاً في حال شعرت «الشاشة» أو رصدت أن المشاهد أصابه التعب أو بدت عليه علامات النعاس.
كذلك يمكن إن قدر البرنامج أن صاحب الشأن الموضوع تحت الرقابة جلس فترة أطول، مما يجب على مقعده، فسوف يسارع بإبلاغه أنه يتعين عليه أن ينهض ليتمشى قليلاً أو يغير مقعده. المشكلة التي ما زالت تناقش بعيداً عن الأضواء، هي المتعلقة باستمرار أداء الشاشة لوظيفتها وهي مطفأة، مثلها مثل حالة معظم هواتفنا الذكية التي تراقبنا حتى وهي منزوعة الطاقة والقدرة على الأداء العلني. ترصد التغير في سرعات أنفاسنا وتسجل إبداعات الهمس الخافت جداً. ترى بعيونها وتصور بكاميراتها ما نجتهد ألا يراه دخيل في عتمة الغرف أو في الليل الدامس. نحن أنفسنا وبأيدينا نزرع في الجدران وعلى الأسوار وفي الأركان تقنيات تصوير لتحمينا من فضول متطفلين ونوايا لصوص، وفي الوقت نفسه تسهل لمغتصبين شرعيين انتهاك حقوقنا وخصوصياتنا.
في تعليقها على الإضراب واحتجاج المعلمين والبرنامج المعد لتغيير سلوكات المشاهدين تحذرنا كاتي فيتسباتريك في كتابها بعنوان: «صعود رأسمالية الرقابة» من مستقبل تلك كانت بعض علاماته وأخلاقياته.
«آن أوان التفكير في منظومة أخلاقية وقانونية دولية؛ لحماية حقوق كيانات الذكاء الاصطناعي، هل الموضوع مطروح للنقاش في مجتمعاتكم الثقافية والعلمية كما هو مطروح الآن في مجتمعاتنا؟». سألني هذا السؤال صديقي القادم من هناك، هناك حيث اقتربت المجتمعات من المستقبل إلى حد غير مريح. أجبت بالنفي. قلت إن مجتمعاتنا لا تزال تبذل الجهد وراء الجهد؛ لرفع قبضة الماضي عن رقبتها، ماضٍ متشبث بنا ولا يريد أن يغادر. بعض ما يتبقى لهذه المجتمعات من وقت وجهد تقضيهما شامتة في الغرب وما أصابه من جرّاء اقترابه من مستقبل غريب.. غريب.
يا صديقي، هل تطلب من مجتمعاتنا التفكير في حماية حقوق الروبوتات وغيرها من منتجات عصر الذكاء الاصطناعي، وهي التي لم تفكر بعد في وضع قوانين؛ لحماية حقوق كائناتها البشرية. أظن أن بعض هذه المجتمعات سوف ينتظر إلى حين تبدأ الصين في تصدير فائض إنتاجها من معامل الذكاء الاصطناعي فنستورد ما يلزمنا ومعه منظومات صيانتها وحمايتها. هكذا فعلت مجتمعاتنا عندما استوردت المستشارين والخبراء ورجال المال الأوروبيين ومعهم قوانين الامتيازات الأجنبية.
الاختلاف الوحيد أن الأجانب هذه المرة لن يكونوا من بني البشر؛ بل كائنات أنتجتها معامل الذكاء الاصطناعي مزودة بجرعات كافية من ثقافة استعمارية متطورة وخلاصات تجارب وخبرات إدارية متقدمة للغاية، ونية مؤكدة لتغيير سلوكات الشعوب التي استوردتها.
ينتظر صديقي بتفاؤله المعتاد أن يؤدي الاهتمام بحقوق الإنسان الآلي في مجتمعاتنا إلى اهتمام مماثل فتتجدد منظومتا حقوق الإنسان الطبيعي وحقوق الحيوان كذلك، إن وجدتا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"