صفعة أيقظت الصحافة الحرة

04:48 صباحا
قراءة 4 دقائق

خلال الأشهر القليلة الماضية، عصفت ببريطانيا أزمة شبيهة بريح فيها نار ألهبت مئات النقاشات وفتحت أبواب جدل ظن الكثيرون أنها أغلقت تماماً . . فالصحيفة التي عودت قراءها على تلقف الفضائح الواحدة تلو الأخرى على مدى 168 عاماً، رفعت يديها اليوم ملوحة وقالت بكل بساطة : الوداع وشكراً .

لقد توقفت صحيفة نيوز أوف ذي وورلد الشهيرة التي طالما فضحت حياة مشاهير وشخصيات سياسية وتطفلت على حياتهم الخاصة . ومما يثر السخرية أن إغلاق صحيفة الفضائح قد ترافق مع فضيحة كبرى وضجة إعلامية لا تقل جلجلة عن تلك التي كانت ترافق الفضائح التي تنشرها على صفحاتها .

روبرت مردوخ أو امبراطور الإعلام كما يطلق عليه، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة نيوزكوربوريشن المالكة للصحيفة،أدين ورئيسة التحرير ربيكا بروكس لاستخدامهما أساليب غير قانونية في الحصول على معلومات بانتهاك خصوصيات المواطنين والتنصت على مكالماتهم الهاتفية .

لقد كانت نيوز أوف ذي وورلد، من أكثر الصحف البريطانية إثارة ورواجاً، وكانت صحيفة الأحد الأسبوعية تسير وفق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة .وقد خلف إغلاقها في الأوساط الإعلامية العالمية صدمة قوية استدعي على أثرها أعضاء بارزون في مجلس النواب البريطاني لإجراء تعديلات في قانون ملاحقة المتورطين بانتهاك الخصوصيات .

وترددت أصداء توقف الصحيفة الشهيرة عن العمل في أرجاء المعمورة، وانهالت المقالات والتحليلات على صفحات الصحف العالمية، وتباينت ردود الأفعال، فدان البعض النهج الذي كانت نيوز أوف ذي وورلد تتبعه في التحرير واعتبروه خروجاً على أخلاقيات المهنة، مؤكدين ضرورة وضع حدود ورسم خطوط واضحة المعالم لتدخل الصحافة في حياة الآخرين، بينما أشار البعض إلى أن الصحيفة المعنية لم ترتكب جريمة، وأن واقع الصحافة اليوم وطبيعة المهنة يتطلبان الحصول على المعلومة بأسرع ما يمكن وبأي وسيلة متاحة .

الآن وقد أٌغلقت صحيفة نيوز أوف ذي وورلد، ونقل موظفوها البالغ عددهم مئتي موظف إلى مؤسسة أخرى من مؤسسات امبراطورية مردوخ، بدأ الغبار الذي أثارته الزوبعة الإعلامية ينقشع رويداً رويداً، وصار بالإمكان الرؤية بوضوح أكثر . وبدأت التساؤلات المهمة تطرح حول طبيعة العمل الصحافي وحول الذين يستحقون الملاحقة والمساءلة في هذا المجال .

لقد كانت نيوز أوف ذي وورلد حتى لحظات إغلاقها من أكثر الصحف جماهيرية في بريطانيا، وبناء على مسح قامت به مؤسسة ناشونال ريدرشيب، فإن مبيعات الصحيفة قد بلغت 8 .13 في المئة في السوق البريطانية متجاوزة بذلك مبيعات كل الصحف الأسبوعية الأخرى .

وفي الوقت الذي كانت فيه الصحف اليومية والأسبوعية في بريطانيا تعاني تراجع الإعلانات التجارية ونسب التوزيع، كانت نيوز أوف ذي وورلد، تعوم في بحر أرباحها .

ولو صدقنا جدلا هذه الإحصاءات، فسنعرف أن مردوخ وبروكس ليسا وحدهما متورطين، وإذا كان هناك من يستحق الإدانة أيضاً، فهم القراء! فهل يمكن أن نروج لسلعة ما إذا لم يكن هناك من يشتريها؟ لقد كان القراء يتهافتون باستمرار للاطلاع على الشائعات والأقاويل التي تنشرها صحيفتهم الأسبوعية المفضلة . . وكان تهافتهم طوال تلك الأعوام، السبب الرئيس في رواج صحيفة فتحت شهية الملايين من المتلهفين وهي تقدم لهم المأدبة تلو الأخرى من فضائح لا تنتهي تسبب معظمها بتدمير حياة الكثيرين .

أنت أيها القارئ من يجعل من الصحف المماثلة رائجة بإقبالك عليها وترك الصحف الأخرى التي تنتهج الاستقامة وتتسم بالرزانة وتعمل جاهدة لمواجهة ريح السوق العاتية!

نعم أيها القارئ، فعندما تتابع بلهفة أخبار سياسيٍّ معروف، لا لمعرفة نشاطه الحزبي أو ما يقدمه في مجلس النواب، بل لتطلع على علاقاته الغرامية وتسبر أغوار حياته الخاصة، فإنك تتيح لصحيفة مردوخ وصحف أخرى مماثلة،تجاوز حدود الأخلاق واختراق حقوق الإنسان .

إن الفضول فطري لدى البشر، وهو الذي يدفعهم لمعرفة خصوصيات الآخرين، وغالباً ما يكون هذا الفضول جامحاً جائعاً لا يمكن إسكاته إلا بأخبار الناس الخاصة . والقارئ لا يهتم بمعرفة الكيفية التي جمعت بها الصحيفة معلوماتها، فهو يريد المعلومة فحسب، لأنه قد يعتاد أخبار الفضائح فتجري مجرى الدم في عروقه، لذا تراه يطلب المزيد دائماً غير آبه بالوسائل التي حصلت الصحيفة بواسطتها على معلوماتها؛ قانونية كانت أم لا، سواء أكانت عن طريق التنصت على المكالمات الهاتفية واختراق البريد الإلكتروني والاطلاع على المراسلات الشخصية، أو حتى عن طريق البحث في حاويات القمامة في منازل المشاهير .

وسائل عدة جعلت صحف الفضائح تتربع على قمة جبل جليد أسهم القراء في صنعه من دون البحث عن مدى صدقية الخبر أو الاهتمام بمصدر المعلومات التي تصلهم جاهزة على الصفحات، فما يهم هو إشباع رغبة في معرفة الأخبار وصلت إلى حد الإدمان .

لقد حصلت صحيفة نيوز أوف ذي وورلد على عدد من الجوائز الإعلامية القيمة في بريطانيا، آخرها جائزة صحيفة العا 2005 . وقد ألهب اندفاع الجمهور حماسة غرف الأخبار ودفعها إلى تقديم المزيد، حتى بلغ عدد قراء الصحيفة 5 .7 مليون قارئ . رقم خيالي شجع القائمين على الصحيفة ومحرريها على المضي قدماً معتبرين ذلك مباركة ضمنية من قرائهم وموافقة أكيدة على أسلوب عملهم .

وعندما فرضت الانتهازية نفسها، وجد رجال السياسة الفرصة متاحة للانتقام من صحيفة لطالما كالت لهم الاتهامات وكشفت أكاذيبهم وأفقدت العديد منهم مناصبهم .

نيوز أوف ذي وورلد، ستكون عبرة للصحافة البريطانية بأنها لن تكون بعد اليوم فوق القانون، لكن الصحافة الحرة في العالم أصابها شعور مشترك بأن مسماراً آخر يدق في نعشها .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"