الأدب المكسيكي..أكبر من الواقعية السحرية

01:15 صباحا
قراءة 11 دقيقة
القاهرة: الخليج

لم يبقَ من تراث المكسيك القديمة أي أثر سوى بعض الأساطير، التي نقلها المبشرون؛ لذا يبدأ الأدب المكسيكي منذ الاستيطان الإسباني، حين كانت المكسيك جزءاً من ولاية إسبانيا الجديدة، ويرى البعض أن رسائل فاتح المكسيك «إيرنان كورتيث» إلى الملك كارلوس الخامس أول نتاج أدبي هناك؛ حيث كان يخبره فيها بوقائع فتح مملكة إسبانيا الجديدة (المكسيك) ويطلعه على أحوال البلاد.
يصف كورتيث في هذه الرسائل حرقه كل سفنه، وانتصاره على مملكة الأزتيك، في أسلوب بسيط وعفوي ومباشر، وهناك من رد على مبالغات كورتيث فكتب «القصة الحقيقية لغزو إسبانيا الجديدة»، ويعتبره البعض أول كتاب أدبي ملحمي مكسيكي، إلى أن ظهر شعراء يتغنون بانتصارات شعوب أمريكا اللاتينية، ومنها قصائد تمجد بطل التحرير «سيمون بوليفار».
في عام 1604 صدر ديوان «العظمة المكسيكية» لراهب يتغنى بجمال مدينة مكسيكو، وبنمط الحياة الاجتماعية فيها، ولم يفلت الشعر آنذاك من محاكاة الشعر الإسباني، فالمكسيك كانت مستعمرة إسبانية لفترة طويلة، وقد حد من انطلاق الأدب فيها، أن الملك كارلوس الخامس سن عام 1532 تشريعاً، يحظر نشر روايات الفروسية، خشية اعتقاد السكان الأصليين (الهنود) بصحة الخيال الروائي، الذي قد يصرفهم عن الإيمان بالمسيحية.
كان الأدب الإسباني في أوروبا، بعد غزو المكسيك، يمر بمرحلة، عرفت بالعصر الذهبي، وكان معظم الأدباء في أمريكا اللاتينية، رجال دين أتوا من إسبانيا للتبشير، أو أبناء أسر ثرية يكملون دراستهم الجامعية؛ لذا كان الأدب في المكسيك تابعاً للأدب في إسبانيا، وقد أسهم الكاتب المسرحي المكسيكي «خوان رويث دي ألاركون» في إثراء اللغة الإسبانية بمسرحياته «الحقيقة المشبوهة»، و«الجدران لها آذان»، و«كيف تكسب الأصدقاء»، التي عرضت على مسارح إسبانيا والمكسيك.
وهناك الشاعرة المكسيكية «خوانا إينيس دي لا كروث»، التي جسدت في كتابها «الحلم الأول» رؤيتها الشخصية للكون، كما كتبت المسرحية الساخرة «تعقيدات بيت» ومسرحية «الحب متاهة أكبر»، فكانت أهم شخصية مكسيكية أدبية في عصرها، تميزت بأناقة الأسلوب وسعة الاطلاع.
تأثر الأدب المكسيكي في القرن الثامن عشر بالمبادئ التنويرية، فعمل المثقفون على نشر المعرفة، وحصلت المكسيك على استقلالها في عام 1821، وعاشت قرناً من الصراعات، التي استغلتها الولايات المتحدة الأمريكية، لتستولي على جنوب القارة الأمريكية الشمالية، الذي كان تابعاً للمكسيك.
انعكست هذه الأحداث في النتاج الأدبي، فكان ملتزماً سياسياً ووطنياً، لكنه بقي أسير تأثير التيار الرومانسي السائد في أوروبا، ثم عرف أدباء المكسيك الحداثة، إلى أن أعلن الشاعر إنريكه غونزالس مارتينيث في عام 1918 موت الحداثة، فنشأ في المكسيك ما عرف باسم «مجموعة المعاصرين»، تيمناً باسم المجلة الأدبية، التي نشرت أعمالهم الأولى، ثم ظهر فيما بعد جيل من الشعراء ينتمي إليه الشاعر «أوكتافيو باث»، الحاصل على جائزة نوبل للأدب عام 1990.
كما يقال ظلت المكسيك، على مدى القرن العشرين، مهووسة بذاتها، ونادراً ما أفلت كتابها من هذا الهوس، فإذا كان أحد الكتاب الكبار قد اقترح ديكورات مختلفة لنصوصه المسرحية، فإن الجيل الجديد أثبت أنه أقدر على بناء جسور نحو آفاق مختلفة، ومنذ بداية السبعينات من القرن الماضي، كان سيرجيو بيتول قد فتح طريقاً جديدة، ودعا إلى نوع من السرد، يمزج ما بين التأمل والحقائق والكذب.
طوال هذه الرحلة لم يكن الأدب المكسيكي معزولاً عن أدب أمريكا اللاتينية، فقد كان هناك ما يسمى «البوم الأمريكي اللاتيني»، أو «الانفجار»، ويمثل ظاهرة أدبية في ستينات وسبعينات القرن العشرين، في الرواية على وجه الخصوص، وشكلت تلك الحركة حدثاً أدبياً مهماً، ونقلة نوعية في الإبداع، عندما نُشرت أعمال مجموعة من الروائيين من أمريكا اللاتينية، على نطاق واسع، في أنحاء العالم، وبينهم ماركيز، ويوسا، وكورتاثر، وفوينتس.
اتسمت إبداعات هؤلاء الكتاب بالجرأة، وبنوع من الجنون، يتناقض مع الواقعية الأوروبية، ويكشف عن عدم التكيف مع النمط الأمريكي، حيث أطلقت هذه الحركة العنان لحرية الخيال، وكانت أعمالهم ذات طابع سياسي تجريبي، ويعود جزء كبير من نجاحهم إلى إبداعاتهم، التي نشرت في عدد من دور النشر الأوروبية.
وإذا كانت أمريكا اللاتينية قدمت للعالم «الواقعية السحرية»، فإن المكسيك هي التي قطعت الخطوة الأولى في هذه الطريق على يدي «خوان رولفو»، رائد هذا الاتجاه، وإذا كانت جائزة سرفانتس هي الجائزة الكبرى الثانية على مستوى العالم، بعد نوبل، إن لم تقترب منها في الأهمية (أعرق جوائز الأدب الناطق باللغة الإسبانية تأسست عام 1975) فإن المكسيك فازت بتلك الجائزة ست مرات، كان آخر الفائزين بها فرناندو ديل باسو، عام 2016 عن «مجمل أعماله، ومساهمته في تطوير الرواية، جامعاً بين التقليد والحداثة، كما فعل سرفانتس في زمنه».
المكسيك، كما يصفها أحد الكتاب بأنها «بلاد عجيبة» لها طابعها الخاص، فهي بلاد إسبانية إسلامية مخططة بألوان «الهنود الأزتيك»، وتربطها بالولايات المتحدة الأمريكية حدود طويلة كانت مثار نزاعات وحروب مستمرة، حتى إن الروائي كارلوس فوينتس في روايته «الغرينغو العجوز»، يطرح إشكالية التدخل الأمريكي في شؤون بلاده، من خلال الرجوع إلى التاريخ المكسيكي الحديث.

هؤلاء الكبار مروا من هناك

كثير من أدباء وفناني العالم وجدوا في المكسيك تعويضاً عن فكرة الوطن، حين فتحت شوارعها وبيوتها لنزقهم الأدبي والإنساني، كانت وطناً بديلاً للجميع، خصوصاً لأولئك الحالمين، الذين تركوا وراءهم أوطاناً تحترق، أو تقف على حافة الخراب.
بعد وفاته في إبريل 2014 وإحراق جسده، بقي رفات الكاتب الكولومبي الكبير «ماركيز»، لأكثر من عام في المكسيك، حيث عاش عقوداً من الزمن، وأقيمت له مراسم جنائزية كبرى، لقد منحته المكسيك فرصة لم يجدها في بلد آخر، وعبر الرئيس المكسيكي عن الأمر قائلاً: «إن هذا الكاتب المولود في كولومبيا جعل من المكسيك (بيته) مثرياً حياتنا الوطنية».
وبعد انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية، تنقل الشاعر الإسباني «لويس ثرنودا» (1902 - 1963) وهو أحد شعراء جيل 1927 بين بريطانيا والمكسيك وأمريكا، وشكلت المكسيك نقطة توازن نفسي، ووطناً عوضه في منفاه عن إسبانيا، التي لم تفارق خياله حتى وفاته في مكسيكو سيتي.
وأجرى الكاتب الأرجنتيني بورخيس ثلاث زيارات للمكسيك في أعوام 1973 و1978 و1981 وهناك كتاب بعنوان «بورخيس والمكسيك»، يركز على القصص والأشعار والمقالات، التي كانت المكسيك محورها، أو تم التطرق إليها بشكل أو بآخر.
بينما في عام 1968 انتقل الروائي التشيلي «روبرتو بولانيو» إلى المكسيك، وهناك أكمل دراسته الثانوية، وكان يعتاد الذهاب للمكتبة العامة بتلك المدينة، التي اشتغل فيها بعدة أعمال، منها بيع المصابيح، وفي العاصمة المكسيكية بدأ يتشكل وجدانه الأدبي، وكانت مكسيكو مسرحاً لأكثر رواياته شهرة «المخبرون المتوحشون».
غادر بولانيو إلى تشيلي، ثم عاد إلى المكسيك مرة أخرى، وفيها أنشأ حركة شعرية عرفت باسم «ما وراء الواقعية»، كانت تعارض القوى المسيطرة على الشعر في المكسيك، يقول الكاتب خوان فيورو عن علاقة بولانيو بالمكسيك: «كانت بالنسبة إليه تمثل نقطة مركزية، لأنها أثبتت وجوده ككاتب، فقد استأثرت المكسيك به ليلاً: شوارعها، أحاديثها اليومية، مصيرها المتخبط، وأحياناً المأساوي، إلى جانب روح الدعابة، فليست مصادفة أن تتركز أحداث روايتيه الأكثر أهمية في المكسيك».
تشكل علاقة الكاتب الفرنسي جان ماري جوستاف لوكليزيو، الفائز بجائزة نوبل في الأدب عام 2008 مع المكسيك محوراً في أعماله، فكانت موضوعاً أساسياً في كتب مثل: «الحلم المكسيكي، أناشيد العيد، دييجو وفريدا»، إضافة إلى تأثيرها في الكثير من أعماله الأخرى، كان لقاء لوكليزيو مع المكسيك يعود إلى طفولته الأولى، بفضل صور البركان المنشورة في صفحات المجلة الجغرافية، إضافة إلى أساطير الأزتيك حول نشأة الأرض.
لكن اكتشافه الحقيقي للواقع المكسيكي يعود إلى فترة تأديته الخدمة العسكرية، فقد تم إرساله إلى المكسيك، وظل منشغلاً بالسؤال: ما الذي جعل الحضارة المكسيكية تختفي تحت وطأة نهايتها، التي تسبب بها المحتلون الإسبان في ذلك الحين؟ يقول: إن الغرب لا يزال حتى اليوم، يمارس هيمنته الثقافية والاقتصادية على العالم، بسبب ذلك الدمار المريع، الذي ترافق مع غزو القارة الجديدة، فكيف كانت ستتطور حضارات الأزتيك والمايا وغيرها، لو أن المحتل الأوروبي الإسباني، لم يمحها خلال تلك الأحداث الرهيبة؟
في عام 1936 ذهب تروتسكي أحد أبرز شخصيات الثورة الروسية، منفياً إلى المكسيك، حيث أقام في منزل الفنان دييجو ريفيرا، ومن هناك مارس التحريض ضد القيادة السوفييتية، واستقر في المنفى في أحد أحياء مكسيكو سيتي، وأصبح على علاقة مع الرسامة فريدا كاهلو، وفي سنة 1940، دخل القاتل غرفة مكتب تروتسكي وفي يده مقال، وطلب من الزعيم الثوري أن يراجعه، وفجأة سحب القاتل معولاً من داخل معطف المطر الخاص به، وضرب به جمجمة تروتسكي.
دفن تروتسكي تحت منصة ضخمة محفورة بمطرقة ومنجل، في حديقة منزله في مكسيكو سيتي، كان عمره يناهز 60 عاماً، وبعد مسيرة جنائزية حضرتها حشود ضخمة، دفن في الحديقة التي أصبحت متحفاً.

أوكتافيو باث.. شاعر المرايا والأحلام

في بيان نشرته الأكاديمية السويدية، عند فوز الشاعر المكسيكي «أوكتافيو باث»، (31 مارس 2018 - 19 إبريل 1998) بجائزة نوبل عام 1990 جاء فيه أن الشاعر «فاز بالجائزة لا لعمل معين من أعماله الأدبية، لكن تكريماً لمجمل كتاباته الشعرية والنثرية المتقدة بالعاطفة، التي تتسم بآفاق ثقافية واسعة وتتميز بذكاء وطاقة إنسانية وقادة»، ولا عجب فقد عاش هذا الشاعر في خضم الحياة المكسيكية، موطنه الأصلي، وناضل من أجل تغييره، مجسداً روح وتاريخ بلده.
وفي ما يخص حياته، فإن السيرة الذاتية «أوكتافيو باث في مئويته» التي قدمها المؤرخ كريستوفر دومينجيث، تعد الأكثر شمولاً وعمقاً، وكما يوضح مؤلف الكتاب فإن التأخير في ظهورها، يعود إلى تشتت أرشيف الشاعر، ويتحدث الكتاب عن العلاقة العاصفة بين باث وزوجته الأولى، والقطيعة مع ابنته، وولعه بالرسم الذي يتعارض ولامبالاته بالموسيقى، وكذلك مسيرته السياسية، ومساعيه التي لم تتحقق من أجل الحوار مع اليسار المكسيكي.
ويؤكد مؤلف الكتاب، أن «هناك قطبين في أشعار باث: التأريخ بمثابة كابوس لا يمكن التخلص منه، والإثارة كخلاص وحيد من جحيم هذا التأريخ، وفيما بينهما يكمن الشعر الذي يمثل محاولة للإيقاع بالحاضر»، ويقول المؤلف الذي كان قريباً من باث لمدة عشر سنوات: «كنت أقوم بترويض عقلي للاحتفاظ بأجزاء كاملة مما كان يقوله، ومن ثم نقله إلى دفتر يومياتي عند وصولي إلى بيتي».
ويشير النقاد إلى أن «أوكتافيو باث» من أكبر شعراء أمريكا اللاتينية، بل العالم الناطق باللغة الإسبانية، إنه معروف بشاعر الحب، والمرايا، والأحلام، وقد عمل على مد جسور متينة بين عوالم السياسة والثقافة، والشعر والنثر، ولم يترك لأي منها الغلبة على الأخرى يقول: «أن تحب معناه أن تحارب، العالم يتغير إذا تحابّ اثنان، وتتجسد الرغبات، وينسجم الفكر، وتخفق الأجنحة، الحب يعني أن تحارب، وأن تفتح جميع الأبواب»، وكان يضمن معالجته لهويته «كمكسيكي» وأمريكي لاتيني في كتابه الذي يحمل عنوان «متاهات الوحدة».
كان باث معجباً بالشاعرين بابلو نيرودا، ورفائيل ألبرتي، اللذين وجّها له الدعوة للمشاركة في أول مؤتمر مناهض للفاشية في إسبانيا عام 1927، حيث عايش فيما بعد أهوال الحرب الأهلية الإسبانية، التي سجلها في قصيدته «لن يمروا» وأظهر تضامنه مع الجمهوريين، وقد أثرت الأيديولوجيات المختلفة في أعماله في فترة شبابه، وأبرزت قصائده انعكاسات وهموماً سياسية، فقد عرف بعمق التاريخ الثقافي لبلاده، وخصص أعمالاً كثيرة لدراسة الهوية المكسيكية المعقدة، ولم يكن أحد يفهم أكثر منه طبيعة المكسيك والمكسيكيين، مع ذلك كان قطاع من السياسيين والمفكرين على خلاف معه أثناء حياته.
وبعد خروجه من إسبانيا، حط الشاعر رحاله في باريس، وتعرف إلى رموز السريالية حينذاك، وعند عودته إلى المكسيك عمل في صحف الحركة العمالية (1939 - 1943) ثم أنهى علاقته بالحزب الشيوعي المكسيكي احتجاجاً على اتفاقية عدم الاعتداء، التي وقعها ستالين مع هتلر في الحرب العالمية الثانية، وأثرت وجهة نظره حول الواقعية الاشتراكية في الأدب، في علاقته بالشاعر بابلو نيرودا، الذي كان في ذلك الوقت قنصلاً لبلاده (تشيلي) في المكسيك، وكان أوكتافيو باث في ذلك الحين أظهر تعاطفه مع الحركة التروتسكية، وكان أهم حدث بالنسبة إليه، في تلك الفترة هو لقاءه مع الحركة السريالية، التي كان أقطابها قد اختاروا المكسيك ملجأ لهم أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان يشارك بين حين وآخر في نشاطات هذه الحركة، التي تركت بصماتها في بعض ما كتبه، خصوصاً في الخمسينات من القرن الماضي، وعمقت تجاربه الشعرية.
وقطع بابلو نيرودا علاقته معه لانتقاده ستالين، بعدها بسنوات، وفي المكسيك أهان علناً نظام فيدل كاسترو، وانتقد عدم وجود الحريات في نيكاراجوا، وفي إحدى المرات في عام 1984، أحرق بعض المتظاهرين صورة باث أمام سفارة الولايات المتحدة الأمريكية اعتراضاً على الخطاب الذي ألقاه في فرانكفورت، أثناء تسلمه إحدى الجوائز الدولية في جمعية الناشرين والكتاب الألمان، أكد فيه أن ثورة نيكاراجوا صودرت من قبل قادتها، وطالب بإجراء انتخابات حرة، كما أنه انتقد الموقف السياسي في المكسيك الذي لا يرتكز، من وجهة نظره، على الديمقراطية، بل على المواجهة السياسية.
وفي سنة 1945 التحق «باث» بالسلك الدبلوماسي، وعمل فيه لمدة 23 عاماً، وعين سفيراً لبلاده في فرنسا وسويسرا والهند واليابان، وكانت له صلات وثيقة بأقطاب الحياة الثقافية في كل البلدان، التي عمل فيها، ثم استقال في عام 1968 احتجاجاً على سياسة حكومته تجاه الطلبة، ثم تفرغ للعمل في الصحافة، وإصدار مؤلفاته التي تنوعت بين الشعر، والفن، والدين، والتاريخ، والسياسة، والنقد الأدبي.
كانت الساعات الأولى من 19 إبريل/‏ نيسان عام 1998، تحمل النبأ الفاجع للجميع، فقد جعل موت الشاعر المكسيكي الكبير، بسبب سرطان العظام، البلاد تعيش في حالة اضطراب، كأنها أصبحت يتيمة من دون زعيمها الثقافي الأكثر تأثيراً في النصف الثاني من القرن العشرين، ولدى إعلان الوفاة كان الرئيس المكسيكي، أرنستو زيديللو، على متن طائرة عائداً من سانتياجو، حيث شارك في قمة البلدان الأمريكية، فقال: «إن الخسارة لا تعوض، وإن النبأ أغرق في الحزن جميع المكسيكيين».

فوينتس و نيتشة

عمل الروائي كارلوس فوينتس (1928 - 2012) سفيراً للمكسيك في باريس (من 1975 إلى 1977)، الأمر الذي أكسبه خبرة كبيرة بالشعوب والثقافات، فكان يرى أن الفروق في الثقافات أعمق من أن تزول في يوم من الأيام، فلا أحد يستطيع أن يقطع مع ماضيه، أو يتحرر منه.
تقلد كارلوس فوينتس عام 1975 مهام منصبه كسفير لبلاده في فرنسا، ثم طلب إعفاءه من هذا المنصب سنة 1977 احتجاجاً على سياسة بلاده التي لم تكن تتماشى مع فكره، ولا تنسجم مع مبادئه، فقد ارتكب الرئيس الأسبق «دايات أوردات» مجازر دموية بحق الشعب المكسيكي (مذبحة الطلاب).
وبعد قراءته «المسخ» لكافكا، سعى فوينتس إلى الاحترافية في القراءة والكتابة، يقول: لست كافكاوياً، وإن كنت قد رأيت سابقاً، أو حتى راهنا، أن الرواية المفارقة التي قدمها كافكا كانت أثارت إعجابي فعلاً، وهو إعجاب حفزني على الكتابة الروائية التي تنشد «الحقيقة»، لكن دائماً من وجهة نظر كتابية أخرى، مغايرة تماماً، ومستقلة، وهناك دافع آخر للكتابة، يعود إلى جدّتيه لأمه، وأبيه.
يقول إن جدته لأمه كانت تسكن عند خليج المكسيك، وهو خليج ساحر وملهم لكل من يعيش فيه، وجدّته لأبيه، كانت بدورها تسكن بالقرب من الساحل الباسيفيكي الذي لا يقل جمالاً، وكان هو يقسم أيام إجازته السنوية بالعدل بين الجدتين، لأن كل واحدة منهما كانت تستقطبه بحكاياتها المثيرة عن البحارة، والمهربين، وقطاع الطرق، واللصوص، والمهاجرين، فضلاً عن الأميرات والسحرة والعشاق الصغار وسير ملاحم الأبطال المكسيكيين والكنوز المخبأة تحت الأرض، وفي أعماق البحار، ما جعل مخيلته تتسع وتنشط مبكراً.

نجيب محفوظ المكسيكي

قدمت السينما المكسيكية فيلمين عن روايتين لنجيب محفوظ، هما «بداية ونهاية» الذي أخرجه أرتورو ريبستين عام 1993، و«حارة المعجزات» عن رواية «زقاق المدق»، من إخراج خورخي فونس عام 1994 وقامت ببطولته سلمى حايك. ويرى نقاد أن السينما المكسيكية كانت أكثر قرباً إلى أدب محفوظ من السينما المصرية.
وقال الناقد إبراهيم العريس، في دراسة له عن سينما نجيب محفوظ، إن المخرج ريبستين، رأى المكسيك من خلال رواية محفوظ، ولم يجد صعوبة في تحويلها إلى فيلم. وأضاف أن محفوظ شاهد الفيلم وألمح إلى أنه «وجد أن هذا المخرج المكسيكي، قد فهم أدبه سينمائياً أفضل مما فعل أي سينمائي عربي».
وقالت الكاتبة باث أليثيا جارسيا دييجو، إنها وقعت في هوى «بداية ونهاية» واقترحت على زوجها المخرج ريبستين، أن تعدها للسينما قائلة له: «إذا لم أعدها سأموت»، وأنها اكتشفت أن عالم محفوظ قريب منها. وأضافت في مقال عنوانه: «محفوظ.. روابط من الطرف الآخر»، أنها أعدت أعمالاً لكتاب غربيين منهم الفرنسي موباسان، والنرويجي إبسن، ولم يثر ذلك دهشة أحد، إلا أن الأمر اختلف مع إعداد رواية لكاتب من العالم الثالث.
وقالت: «يغيظني أن يجد الناس غرابة في إعداد عمل مصري للسينما. أعتقد أن التفسير الوحيد موجود في عوائق الفكر الاستعماري، فالمرء يستطيع أن يتبنى المركز، ينسخه، ينافسه، لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك مع مثيله، مع فقير آخر من الأطراف».
وقال الناقد المصري كمال رمزي، إن الفيلم المكسيكي «حارة المعجزات» الذي أنتج بعد مرور ثلاثة عقود على إنتاج الفيلم المصري «زقاق المدق»، الذي أخرجه حسن الإمام عن الرواية نفسها «أقرب لعالم نجيب محفوظ ورواياته من الفيلم المصري، وسلمى حايك تعبر عن بطلة الرواية «حميدة»، على نحو أعمق وأصدق من تجسيد شادية لها. سلمى حايك تفهمت واستوعبت شخصية حميدة، بتكوينها الداخلي».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"