إشكالية الكتابة في السياسة

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

الكتابة في السياسة بوصفها محاولة البحث عن القرارات التي ستُتخذ أو السياسات التي ستُتبع في أية دولة، من دون أن يكون صاحبها منخرطاً في صناعة القرار أو راسماً للسياسات، هو ضرب من ضروب قراءة الكف. فكاتب المقالات السياسية، وأنا منهم، يستند إلى وسائل الإعلام، وما تبثه من أخبار وتصريحات، إلى جانب شيء من الجهد الشخصي ذي الصلة بالقدرة على التحليل والوصول إلى نتائج، فإذا علمنا أن الخبر الصادر عن اجتماع بين مسؤولين كشف عن نصف حقيقة ما دار في الاجتماع في أحسن تقدير، وإذا علمنا أن التصريحات الخاصة بالسياسيين تتناول العموميات، حتى لو كشفت في ظاهرها عن بعض الحقائق، يكون الكاتب السياسي قد استند إلى الاحتمالات والسيناريوهات التي يراها قابلة للحدوث، وقد تثبت الأيام عدم صدق أي احتمال أو سيناريو، فكم من سياسي خرج مبتسماً من اجتماع كان عاصفاً ومملوءاً بالتشنجات، وأطلق عبارات مملوءة بالتفاؤل، وكم من عسكري خرج من اجتماع لقادة الأجهزة الاستخبارية، قد قرروا عمليات قتل وانقلابات هنا وهناك، وخرج المتحدث الرسمي بعبارات تدعو إلى السلام بين الدول.
  مبعث هذا الكلام، محللون سياسيون كثيرون يجلسون أمام كاميرات التلفزيون، يتحدثون بثقة كأنهم كتبوا للتو بأقلامهم القرارات والتوصيات، ووضعوا ملامح المرحلة القادمة، وهم، في واقع الأمر، الأقل اطلاعاً على مجريات الأحداث، وعلاقاتهم بالسياسيين تكاد لا تذكر. 
وقد زادت وسائل التواصل الاجتماعي من هذه الظاهرة المحرجة، فلا يتردد أي مقابل لشاشة حاسوبه ويتابع خطاباً لمسؤول أو مؤتمراً صحفياً لزعيم، من كتابة التغريدات المتلاحقة، يتحدث فيها عن نوايا ذلك الزعيم، وما أخفاه من أقوال وتصريحات، ويستند في ذلك إلى قراءة حركات الجسد، ورمشة العين ومستوى نغمة الصوت، وفي النهاية لم يفعل هذا المغرد سوى أنه استهلك نفسه ووقته بشكل مجاني وغير دقيق.
  الصحف تستهلك مساحاتها البيضاء، والتلفزيونات تستهلك زمن البث، والمتحدثون يستهلكون أنفسهم بطريقة سمجة، من دون حسيب أو رقيب، تحت مقولة (يحق لكل إنسان الإدلاء برأيه والتعبير عن موقفه)، واستطراداً، لقد سطّرت الأمم المتحدة هذا الحق الإنساني في البداية بشكل مشروط وهو، أن يكون المتحدث أو الكاتب من أصحاب الاختصاص، فأين نحن من أصحاب الاختصاص هذه الأيام، أعتقد بأن الأمر في حاجة إلى مراجعة نوعية لوضع النقاط فوق الحروف، ولكي يكون للكلام معنى.
  ولنضرب مثلاً شاملاً: كم مرة استنتج المحللون قبل خمس سنوات تقريباً، أن ضربة عسكرية ستوجهها الولايات المتحدة لكوريا الشمالية، وكم مرة دقوا طبول الحرب بين الولايات المتحدة والصين، وكم مرة قالوا إن توجيه إسرائيل ضربة للمفاعلات النووية الإيرانية هي مسألة وقت، وإن حرباً ضروساً ستقع بين مصر وإثيوبيا. وعلى الصعيد المحلي للدول، كم مرة تحدث المحللون عن حرب أهلية في لبنان، وعن تنازل الرئيس السوري بشار الأسد، وعن عودة سيف الإسلام القذافي لحكم ليبيا؛ بل إن كثيرين يتنبؤون بعودة القياصرة لحكم روسيا، وغيرها من التحليلات والتنبؤات.
    المثير في الأمر عدم اكتفاء المحللين بوضع سيناريوهات عديدة لما يمكن أن يحدث في دولة ما، أو بين دولتين؛ بل الذهاب أبعد من ذلك، يقومون بنشر اليقين في حدوث احتمال واحد، وهم يعلمون أن السياسة هي فن الاحتمالات، وهي لعبة المصالح، وهي السير في حقول الألغام من دون أن ينفجر أي لغم.
  لم أقصد التقليل من المقالات السياسية، هناك مقالات دسمة مفعمة بالمعلومات والتحليلات الجادة، وغالباً ما يكون أصحابها على اطلاع وافٍ بعض الشيء على مجريات الأمور، ويتحدثون بمنهج علمي رصين، بعيداً عن الصراخ والتشنج.
وأخيراً، لماذا لا ينشر السياسيون مقالاتهم إلا بعد اعتزالهم للسياسة؟ الإجابة ببساطة، لأن العلاقات بين الدول تتبدل بين عشية وضحاها، ولهذا يلجؤون إلى الحذر.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"