عروض أفضل لعمال العالم

21:20 مساء
قراءة 4 دقائق
داني رودريك

داني رودريك *

في الاقتصادات المتقدمة، غالباً ما تكون أرباح العمال الأقل تعليماً راكدة على الرغم من المكاسب العامة في إنتاجية العمل. فعلى سبيل المثال، ارتفعت منذ عام 1979 تعويضات العمال الأمريكيين بأقل من ثلث معدل نمو الإنتاجية للمؤسسات التي يعملون بها، وازداد انعدام الأمن وعدم المساواة في سوق العمل، وتخلّفت العديد من المجتمعات عن الركب حين أغلقت المصانع، وانتقلت الكثير من الوظائف إلى أماكن أخرى.

وفي البلدان النامية، حيث تنبأت النظرية الاقتصادية القياسية بأن شريحة العمال ستكون المستفيد الرئيسي من التقسيم العالمي المتزايد للعمل، حصدت الشركات ورؤوس الأموال مرة أخرى أكبر المكاسب، وأظهرت الدلائل أنه حتى في الأماكن التي تسود فيها الحكومات الديمقراطية، سارت «حرية التجارة» جنباً إلى جنب مع «قمع حقوق العمال».

لطالما أدت أوجاع سوق العمل إلى توترات اجتماعية وسياسية أوسع، وفي كتابه «عندما يختفي العمل»، وصف عالم الاجتماع ويليام جوليوس ويلسون كيف أدى التراجع في وظائف الياقات الزرقاء إلى زيادة نسب تفكك الأسرة وتعاطي المخدرات وارتفاع معدلات الجريمة. وفي الآونة الأخيرة، وثّق الاقتصاديان آن كيس وأنجوس ديتون زيادة حالات الوفاة جرّاء اليأس بين الرجال الأمريكيين الأقل تعليماً. كما ربطت الأدبيات التجريبية المتزايدة صعود الشعبوية اليمينية في الاقتصادات المتقدمة باختفاء الوظائف الجيدة للعمال العاديين.

ونتيجة لجائحة «كورونا» الكونية، تجددت مشاكل العمال وجذبت الانتباه إليها مرة أخرى، وأظنها مشاكل محقة. فكيف يمكن لهؤلاء ليس فقط الحصول على نصيبهم العادل، ولكن أيضاً الحصول على وظائف لائقة تعينهم على عيش حياة ذات مغزى؟

أحد الأساليب هو الاعتماد على المصلحة الذاتية المستنيرة للشركات الكبيرة، فالعمال السعداء والأوفياء هم الأكثر إنتاجية وسعياً لتقديم خدمة عملاء جيدة، والأقل عرضة لترك العمل. وأظهرت بيانات معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن مؤسسات البيع بالتجزئة باستطاعتها خفض التكاليف وزيادة الأرباح عن طريق دفع أجور جيدة، والاستثمار في عمالها، والاستجابة لمتطلباتهم.

وتدّعي الكثير من الشركات أنها تسلك الطريق الصحيح للوصول لأفضل معايير العمل، لكنها في الحقيقة من أشد المناهضين للنقابات العمالية، وتسلك الدرب الخطأ عبر خفض الرواتب، معللة ذلك بأنها استراتيجية مؤسساتية مربحة. لكنهم يغفلون في المقابل عن أنه، وتاريخياً، جلبت القوة التعويضية للعمل، من خلال الجماعية والتنظيم النقابي، أهم المكاسب للعمال وجهة العمل نفسها.

تتمثل الاستراتيجية الثانية لمساعدة العمال في زيادة القوة التنظيمية لهم مقابل أصحاب العمل. وقد وافق الرئيس الأمريكي جو بايدن صراحة على هذا النهج، بحجة أن تقلص حجم الطبقة الوسطى الأمريكية هو نتيجة لانخفاض قوة النقابات، وتعهد بتعزيز العمل المنظم والمفاوضة الجماعية.

في بلدان مثل الولايات المتحدة، حيث أصبحت النقابات أضعف بشكل ملحوظ، لا غنى عن هذه الاستراتيجية لتصحيح الاختلالات في قوة المفاوضات بين الطرفين. لكن التجربة المماثلة للعديد من البلدان الأوروبية، حيث لا يزال تنظيم العمل والمفاوضة الجماعية قوياً، تشير إلى أن هذا النهج قد لا يكون العلاج الكامل لمشاكل العمال.

فالمشكلة هي أن حقوق العمال القوية قد تخلق معها أسواق عمل «مزدوجة»، تعود فيها الفوائد على الأكفاء، في حين يكافح العديد من العمال الأقل خبرة للعثور على وظائف. وعلى سبيل المثال، خدمت المفاوضة الجماعية المكثفة وأنظمة العمل القوية العمال الفرنسيين بشكل جيد، ومع ذلك، لدى فرنسا واحد من أعلى معدلات بطالة الشباب بين الاقتصادات المتقدمة.

وتستند الاستراتيجية الثالثة، التي تهدف إلى الحد من البطالة، إلى ضمان الطلب الكافي على العمالة من خلال سياسات الاقتصاد الكلي التوسعية. فعندما تحافظ السياسة المالية على ارتفاع الطلب الكلي، يسعى أصحاب العمل خلف العمال، وليس العكس، وتنخفض مستويات البطالة. وأظهر بحث أجراه لاري ميشيل وجوش بيفنز من معهد السياسة الاقتصادية الأمريكي أن تقشف الاقتصاد الكلي هو أحد الأسباب الرئيسية وراء تخلف الأجور الأمريكية عن الإنتاجية منذ الثمانينيات. وعلى النقيض من ذلك، ضمنت الاستجابة المالية الضخمة لإدارة بايدن في التعامل مع أزمة فيروس «كورونا» زيادة الأجور في الولايات المتحدة مع انخفاض حاد في معدلات البطالة.

أما جوهر الاستراتيجية الرابعة، فهو تغيير هيكل الطلب في الاقتصاد وفقاً لمصلحة العمال الأقل تعليماً داخل المناطق المحرومة على وجه الخصوص. ويستلزم ذلك مراجعة برامج تطوير الصناعة والأعمال الحالية، بحيث تعود الحوافز على الشركات التي تخلق وظائف لائقة في أماكن مناسبة، ويتم تصميمها ووضع احتياجات هذه الشركات في الاعتبار. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن نفكر صراحة في كيفية توظيف التقنيات الجديدة لمساعدة العمال، وتدريبهم على التكيف معها كي لا تضر بهم. ويمكن أن تساعد السياسات الحكومية في توجيه تقنيات الأتمتة والذكاء الاصطناعي ضمن مسار أكثر ملاءمة للعمالة، يُكمّل مهاراتهم بدلاً من استبدالها.

في نهاية المطاف، يتطلب تعزيز مكاسب العامل وكرامة العمل تعزيز القدرة التفاوضية للموظفين، وزيادة المعروض من الوظائف الجيدة لمن هم في أمسّ الحاجة إليها. وهذا من شأنه أن يمنح جميع العمال عروضاً أفضل ونصيباً عادلاً من الرخاء في المستقبل.

* أستاذ الاقتصاد السياسي في كلية جون إف كينيدي (بروجيكت سينديكيت)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"